TOP

جريدة المدى > سينما > استرجاع الذاكرة بالصمت.. فيلم "القطع"

استرجاع الذاكرة بالصمت.. فيلم "القطع"

نشر في: 31 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

على وقع حركة تلك السكين كان الذبح فاصلاً بين الروح والجسد، انشطاراً حاداً للديموغرافيا، وتغريبة ذات قبل كل شيء. ومابين مجزرة وترحيل قسري عاش الأرمن مأساة طمطمتها غايات القوى الكبرى ورفضتها بحدة ذاكرة تركيا الحديثة. لكن شتاتهم ظل جرسا يدق على الضمير ا

على وقع حركة تلك السكين كان الذبح فاصلاً بين الروح والجسد، انشطاراً حاداً للديموغرافيا، وتغريبة ذات قبل كل شيء. ومابين مجزرة وترحيل قسري عاش الأرمن مأساة طمطمتها غايات القوى الكبرى ورفضتها بحدة ذاكرة تركيا الحديثة. لكن شتاتهم ظل جرسا يدق على الضمير الانساني لعله يغادر الإنكار الى يقظة مفترضة.
حين يصحو (نزاريت مانوجيان) ذات ليلة بعد عمل يوم في دكان الحدادة على وقع طرقات الجندرمة العثمانية . ستكون تلك اخر اطلالة له على ذلك المكان الذي عاش فيه هو وأجداده أعواما عديدة، مبتدئا رحلة معاناة ستنقله لشتى المدن بحثا عن عائلته ومن ثم عن توأميه بعد ان ينجو من الموت بأعجوبة مع إصابة في الرقبة تفقده النطق. سفر حقق اسطورة حكاية اللقلق حين شاهده ذات مرة برفقة الفتاتين.
وعلى هدى الوشاح الذي طوقته به احدى الصغيرتين وحكاية زهرة عباد الشمس وأغنية أرمنية كانت زوجته تدندن بها ، ظل نزاريت يذكي جذوة أمله باللقاء مع ابنتيه مرسخا في خياله مرجعية لتلك الأواصر المتردد صداها طوال رحلته. يقدم (فاتح أكين) صورة أعتمدت معماراً بصرياً يقارب به كلاسيكيات السينما العالمية، دافقاً نسغاً من ارث سينمائي في ثنايا حكاية تاريخية، مستخدماً اللقطات الواسعة الموحية برمزية لتلك المسافات الشاسعة التي ينبغي على مانوجيان قطعها للقاء الفتاتين. لم يفشل أكين في استحضار ادواته الفنية والتي لفت بها الانظار حين فاز فيلمه (وجها لوجه) عام 2004 بدب برلين الذهبي ليتبعه بجائزة افضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي عام 2007 عن فيلم (من الجانب الاخر) ومع مشاهد صادمة بقسوتها وأخرى مغرية بجمال السينماتوغرفي الذي اداره السويسري (رينر كلاوسمان) شريكه الدائم بأعماله السابقة في شطر فيلمه الاول وتغيرها لرحلة مغامرات مكررة بنسق عادي وبعضها غير مبرر في اللاحق، حاول المخرج ممارسة لعبة التوازن مابين النقد والجمهور وهو ماتحقق له حين انشطر فيلمه لنصفين ارتفع في الاول وانخفض في الثاني ولكن على حساب التقييم العام لشريطه السينمائي. كان ممكنا ان يكتسب (القطع) طاقة حضور هائلة لو تمكن من اشباع تلك التفاصيل لرحلة الإبادة التي عانتها عائلة نزاريت بدل المرور عليها بشكل هامشي رغم قوتها الانطباعية مثل مشاهد مخيم اللاجئين، وتغذية شكل علائق العاطفة بينه وزوجته والاستطراد ببعض ابعادها ورسم محيط ميلودرامي باسترجاعات مؤثرة في مسار القصة يوصل خيوط المشاعر مع ابنتيه خصوصا ان الموسيقى التصويرية التي وضعها الالماني ألكسندر هاكه تدرك تماما مسار الموازاة المتوجب سلوكه لدفع الحدث على خط القصة. ان أكين الذي استغرق سنوات عديدة في كتابة السيناريو بمساعدة من مارديك مارتن المشارك في كتابة عدد من اهم افلام سكورسيزي مثل الثور الهائج ونيويورك نيويورك وشوارع وضيعة تسابق مع الدقائق على الشاشة في تحويل فيلمه لرحلة ترحال تراتيبة الخطوة (فيلم طريق) شوشت قليلا على ذلك التواصل العاطفي مع المُشاهد والذي أرساه الضوء المسلط على الإبادة في الثلث الاول بازرا بقوة من خلال مشاهد الترحيل والاغتصاب والذبح. الأمر الذي جر على المخرج آراء نقدية لم تتفهم شغفه المحتفي بالمقاربات مع صناع سينما كلاسيك مثل ديفيد لين وسيرجيو ليوني في مشاهد تبرز فيها الصحراء وشخصية المحارب الويسترن، دون ان ينقطع طيلة الفيلم عن الابتهاج بشارلي شابلن والذي سيظل خياله حاضراً بشكل مباشر كما في مشهد السينما التي تعرض افلامه بأزقة حلب لينحت ابتسامة وضحكات على وجوه تغلفت بشقاء وحزن مرير او غير مباشر مثل رحلات نزاريت بالسفينة الى كوبا او حتى امريكا (فيلم المهاجر لشابلن)، ومن السهل الادراك ان احد اسباب جعل مانوجيان صامتا هو مقاربة استذكارية للسينما الصامتة. مايحسب للمخرج الالماني ذي الاصول التركية جرأته في تناول هذه القضية المنُكرة كتابو على نطاق واسع في العقل الجمعي التركي، ووضع بداية لسطر جديد من خلال فيلمه (القطع)، الذي يقطع فيه ذلك السكوت المريب (ترميز رئيسي لجعل نزاريت أبكم) باستنطاق السينما من خلال قوة حضورها الانساني لصورة الحقيقة المرعبة. (القطع) هنا تعبير عن وحشية تستكثر على الضحية القتل برصاصة لتستبدله برعب حز الرقاب، وإزاحة لحواجز المنع عن تاريخ تلك الصرخات المكتومة عند جبل ارارات. وهو لغة حديث بصرية يُبرز فيه فاتح أكين حكاية نزاريت مانوجيان الارمني الذي صار بحثه عن ابنتيه رحلة ايجاد ارض الوطن الضائع مادامت العائلة هي أول الاوطان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram