المسألة الاولى:ثمة مفارقة ذكرها الشاعر الايطالي يوجينو مونتاليه(نوبل 1975)، هي ان الفن الذي يعكس زمنه يعيش في زمن آخر. ونحن الآن لا نستطيع القطع بسبب واحد لما ذكره الشاعر الكبير. هل هو مدى الحرية المتاحة ام المستوى الثقافي للمرحلة ام هو صفاء الرؤية ا
المسألة الاولى:
ثمة مفارقة ذكرها الشاعر الايطالي يوجينو مونتاليه(نوبل 1975)، هي ان الفن الذي يعكس زمنه يعيش في زمن آخر. ونحن الآن لا نستطيع القطع بسبب واحد لما ذكره الشاعر الكبير. هل هو مدى الحرية المتاحة ام المستوى الثقافي للمرحلة ام هو صفاء الرؤية الحيادية على مبعدة كافية من ذلك الزمن؟ يمكن القول انها الاسباب كلها مجتمعة ومعها اتساع الرؤية والنضج الفكري لاستيعاب ما كان. كما ان تقدم أو تطور مستوى التعبير سبب آخر مهم يمكِّن من الكشف. الفكر والفن هنا اكثر نضجا.
ولن ننسى مسألة قد تكون خفيّة قليلا، هي ان مستوى المتلقي في الزمن الاخر هو غير مستوى المتلقي في زمن الحدث واكثر تقبلً للتأويل والرؤية.
مسألة ثانية قوله:
ان التاريخ وضد التاريخ يقرران مصير الاعمال الفنية. لكننا نعلم ان الشاعر او الفنان يولد في تاريخ معين والمسألة لا تعود له ان كان هذا الفن أو هذا الشعر سيكون مفهوما في بعد تاريخي آخر، أو لا يكون. لا احد يستطيع تحديد بيئة المستقبل.
اذن نحن نواجه حالين : الاولى ان الأدب والفن عن هذا الزمان يتكاملان في زمن اخر . والثانية ان للتاريخ دورا في التقويم أو في الحكم. ومن ربط المسألتين يكون للنتاج الابداعي لزماننا حضور في الزمن الاخر ، وان هذا الحضور يتحكم فيه التاريخ لا الشاعر أو الفنان وفنه. ومما نرى، اشعر ان حضور السياب اكثر في زماننا، فضلا عن امتيازه الشعري، وجود تمثاله في البصرة وانعقاد المربد السنوي هناك.. وهذا سبب خارج الفن يسهم في حضور الفنان خارج زمنه أو مرحلته. لا ذكر للبياتي في المربد. ربما تأتي مناسبة، ولكننا نعني التأكيد الحي للحضور. كما ان حضور الجواهري الكبير وراءه مسألة خارج الشعر. وكذلك ما تعرض له الراحل عبد الرزاق عبد الواحد من خير وشر. هو ليس شعره وحده. اذاً ثمة اسباب تؤكد حضور شاعر أو فنان غير الشعر وغير الفن. لا احد يذكر الراحل شاذل طاقة، شاذل شاعر جيد لكنه غائب عن الجبهتين، فلا يذكره احد. سعدي يوسف شاعر مجيد ولكنه بدأ يبتعد عن جانب كان يهتم به لسبب هو غير فنه الشعري. اذا، الفن وحده ليس كفيلا حاسما للحضور في الزمن الاخر. هيمنة- فكر سياسي في المستقبل سيمسح كثيرا من الاسماء التي تمجدها اليوم. قد تبقى في المكتبات للدرس الحذر والمتحفظ! على اية حال شواهد اليوم ليست قليلة وصعب نكرانها...
المسألة الثالثة هي لغة الكتابة:
وهنا التاكيد على الاسلوب، فاللغة تبقى مفردات وتراكيب مألوفة. الادب يغير من وقع الكلمة ومن دلالاتها، يضيف ويتجاوز. ان كان هذا يبعد الكاتب عن متلقي زمنه، لم لا نكتب بيسر، كتابة تنفي غربة التأليف؟ يمكن ان يكون الجواب سهلا مباشرا، هو ان الابداع يعني التغيير. ويمكن ان يكون لنا سؤال استنكاري مازح: ولم لا نلقط حبات القمح بدلا من عمليات الطحن، الخبز، الجماليات أو المشهيات المضافة؟ ليسهل الهضم؟ هذا سبب. لزيادة الشهية، وهي هنا القراءة؟ هذا سبب. لكننا نسينا اننا نصنع فنا! هو فن الشعر وفن الكتابة وفن الرسم. واننا بالنسبة لمثالنا البسيط، نلتذ ونعجب باللون والشكل والاشذاء ونتذوق حضارة. اننا نقترب من الفن حين نصنع من مادة خام نتاجا جميلا يمنحنا مع العافية لذة ومتعة وفرحا روحيا.. لم يعد الاسلوب لغة حسب ولا عاد الخبز غذاء وطاقة. لم نعد محدودين بالجدوى.
فحين نقول: اكتبوا النص بدقة، بفن، بذائقة خاصة للمفردة، بجمال صياغة وبافق اوسع، انما ندعو لتطوير وتحويل المادة الخام لان تكتسب معنى اعلى واكثر نفاذا ونعطيها سبب بقاء. فلنعط وقتا كافيا للذاكرة وللمهارة بعيدا عن الكتابة المسرفة في نثريتها وبعيدا عن التسرع واللامبالاة بالصياغة. وهنا صار مطلوبا الاشراف على خزائن اللغة وما أُنجِز قبلنا من فنون. السماد مطلوب لعافية الشجرة.
الواقعية غير الذكية وقعت في مطبات الاعتيادي. لكن المنتبهين، المثقفين بالخبرة، والدرس ابتعدوا عن تبنّي كل ما امامهم من احداث ومشاهد واثارات. منحوا انفسهم فرصة للاستيعاب وانتقاء الدلالة، ثم ابتداع الاسلوب الجديد لكن المثير والذي لا يخطئ القارئ لذته الجديدة.. اولئك ظلوا قريبين من المواد الخام، اولاء صنعوا منها فناً.
نعم، نحتاج إلى بعض اليومي ونحتاج إلى بعض الميتافيزيق أيضاً نحتاج إلى البساطة والمباشرة احيانا ولكن نحتاج إلى الاستعارية والبناء المستحدث أيضاً. المهم لا القوانين أو القواعد، المهم ادراك ما تحتاج له الصناعة الفنية التي نريدها جديدة ولا نستسهل الامور فنخسر المصير! وتبعا لهذا ننتظر الاعجاب بالعمل الفني الحديث من المتخصص، من الناقد، أو الشاعر الراسخ ان كان النص شعرا ومن الرسام الراسخ اذا كانت لوحة. نحترم ارتياح المتأدبين أو المحبين الهواة. لكن اولاء يهمهم الاجتماعي المباشر، ذلك ما يعنيهم، لا الفن!
مرة، في معرض رسم مشترك لرسامين اثنين احدهما بسيط ذو لوحات قروية تقليدية، حلوة كانت مفرطة في البساطة. شهدت كثيرين يتوقفون عندها. الفنان الاخر، فنان حديث، وللوحاته امتيازها الخاص. كان هذا ينظر من بعد وبأسى، أو بانتظار من يبهجه بإعجاب.
في البداية كنتُ الوحيد. ثم جاء ثلاثة رسامين اصدقاء وجاء رابع، صرنا عشرة وقد خلت القاعة من سوانا. انضم لنا الفنان المبتعد واكاد اقول: احتفلنا بالانجاز! هذا يجعلني اقول ان اكبر رسام يموت في المجتمع العام واكبر شاعر يضيع صوته في الصخب. الميكرفونات اليوم غطت على الاصوات العميقة الخافتة.
لا إدانة لاولئك ولا ثناء على أولاء، هو المجتمع دائما خليط مستويات وخليط ثقافات واهتمامات. الفن الحقيقي ناعما وبهدوء يخترق الزحام إلى المستقبل..