على ذات عمود الكهرباء الذي علـَّقوا عليه يافطة نعي ابنك، علقوا يافطة نعي ابني. كتبوا في يافطة نعي ابنك أنه: مات بحادث مؤسف، ولم تفصح اليافطة عن شيء أكثر، فيما مات ابني بطلقة اخترقت جسده في واحدة حروب الطوائف الكثيرة. تباينت أحاديث الناس كثيراً عن ابنك، قالوا إنه كان عائداً من منطقة تحيطها الوديان والصحارى، وأنه ترك وظيفتهُ في شركة البترول، لأنه كان خائفاً على أسرته في البصرة من الخطف، فاختار المدينة تلك، ظنَّاً منه بأنها آمنة، لكنه غادرها حين دخلتها جماعات مسلحة، كنت آسفاً لأن الناس هنا لا يفرّقون بين العائدين، ولا يعرفون الخائف من الموت والمندفع إليه. لم يكن ابني بطلاً، كما يعتقد الناس، هو مثل ابنك مات اكثر من مرة هناك، خاض حروباً لم تكن ضده لذاته، قلت له لا تذهب يا ابني، أبقَ حيث أنت، بستاننا بحاجة اليك، لدينا الكثير من النخل ولدينا سفينة للصيد، ما زالت بصبغها الأول، هناك على رملة قرب البحر البعيد، لكنه اختار البطولة، هكذا مثل أي خاسر في قاعة للقمار!
كانت المصاحف وكتب الأدعية والمخاوف من الموت مرمية في سرادق عزاء ابني ، ومثل ذلك كانت أواني النحاس والمقاعد وما فـُرش من السجّاد والبسط، لكن شيئا من الإهمال لم يرََ حين دخل والي المدينة بزيّه العسكري السرادق. فقد وقف أهلي صفا طويلاً في استقباله، تعجّلوا بوضع الورد وكأس الماء وكيس المحارم أمام كرسه، حيث يجلس. أظنهم فعلوا ذلك حين دخل الوالي نفسه صحبة حاشيته، بزيه الثاني سرادق عزاء ابنك، فهو يلبس لكل سرادق ثوبا مختلفاً. أنا أعرف الولاة أكثر منك، فقد قرأت في الكتب أنهم يلبسون لكل مناسبة ثوبا مختلفاً، فهم يفعلون ذلك في سرادقات العزاء الكثيرة في مدينتنا. وفيما كانت دموعنا حارة، طرية تتلقفها الأرض، كانوا يرمون بدموعهم في المحارم. وحين كان للطعام في أفواهنا طعم الطين المعجون بالدم، كان المعنيون بأمر العزاء يحرصون على تقديم أطيبه اليهم، فأكلوا اللحم بالرز ثم ناولهم الاتقياء من أهلنا التمر والبرتقال والموز، وتناوب آخرون على غسل أيديهم ثم خرجوا مسرعين، تتقدمهم سيارات سوداء فارهة.
حين دخلتُ مأتم عزاء ابنك، في المسجد القريب من بيتكم، تعثرتُ بحشد الناس، خفتُ والله، أنا ترعبني الوجوه الملثمة، حتى وإن كانت ملثمة حزناً. لم يكن ذلك ما يُشغلني، فقد اخترتُ الزاوية القريبة منك، حيث تجلس، عانقتك مثلما يعانق رجل وحيدٌ شقيقه، بعد طول خصومة، بكيت على كتفك وسقطت دموعك حارة على كتفي لم تشأ أن تحدّثني عن الذين قتلوا ابنك، إنما قلتَ بأن سيارة سوداء، لا تحمل أرقاماً وقفت عند باب البيت، وحين استبطأت ابنك، الذي خرج ليفتح الباب لهم، خرجت خلفه، فوجدته مرمياً على العتبة، نصفه أحمر ونصفه الآخر بآثار عجلة ثقيلة، العجلة سحقت كتفيه وربت طويلاً على رقبته، وقبل أن تغمض عينيه، قلتَ بأنه كان يشير بأصبعه الى جهة إلى الشرق من منزلكم، مع أن بيتكم كان على النهر. وهكذا ظل لغز موته محيراً!
لم أختر الحديث معك عن ابني، كنت أتجنب قضية مصرعه هناك، لكنَّ احدهم سألني ما إذا كنت أنوي بيع سفينة الصيد أم لا؟ اوجعني ان يتعجل الرجل هذا قضية بيع السفينة، فأومأت له أنْ لا. وحين انفضَّ مجلس العزاء في الليلة الأخيرة كنتَ إلى جانبي ترفع أعمدةَ وقضبان المجلس، وترزم ما كان تحت أقدام المعزّين من الفـُرش والبسط والسجاد. قلتُ لك اتركْ لنا واحدة نتقاسمُ على وسادتها الكمد والخسران، فاخترتَ الداكنة الغبراء. كنتَ لا تنفك تشعل السيجارة من الثانية، وكنتُ أكفكف الدمع بطرف يشماغي الذي أكلتِ الايامُ مقدَمَهُ. قلتُ لك بانَّ طلقةً، جمرةً اخترقت خاصرَته، وأنَّهم لم يتمكنوا من نقله خارج خريطة الموت التي رسمت له، وأنَّ الصحراء كانت شاسعةً بين جسده وسيارة المستشفى، وأنَّ طرقا وعرة كانت تفصل حراسَ البوابات عن بعضهم، وأنَّ سور المدينة كان عالياً، بما لم يمكّن نَقَلَة جثامين الجند من العبور، وهكذا رحتُّ أبحث في اللغة عن ما يهوّن عليَّ وعليك الواقعة بتفاصيلها.
ولأنَّ الدموع غلبتنا معا، ولأنَّكَ ستكون بانتظار فجيعة أخرى، مثلما كنتُ انتظرتُ أنا فجيعتي بابني. هكذا، بحسب ما قرأنا في كتاب النخل والدموع، الذي تصفحنا فصوله ذات يوم. قلتُ لكَ سيكون عمودُ الكهرباء ذاك، الذي علقت الناسُ عليه يافطة موت ابنينا معا شاهداً على أننا لم نكُ بعيدين عن بعضنا أبداً.
اليافطة على عمود الكهرباء
[post-views]
نشر في: 2 يناير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...