القسم الاولكثيرا حلمت بالملابس المدنية بعد أن صار اللون الخاكي يسبب لي التوتر حتى في بدلة أرنستو تشي غيفارا صديق مراهقتي عندما قرأت أغلب ما كتب هو أو ما كتب عنه.غيفارا واحد ممن أورثوني الجنون الثوري، ومع أني هدأت ثوريا وصرت أرى إلى العالم بعقلانية ال
القسم الاول
كثيرا حلمت بالملابس المدنية بعد أن صار اللون الخاكي يسبب لي التوتر حتى في بدلة أرنستو تشي غيفارا صديق مراهقتي عندما قرأت أغلب ما كتب هو أو ما كتب عنه.
غيفارا واحد ممن أورثوني الجنون الثوري، ومع أني هدأت ثوريا وصرت أرى إلى العالم بعقلانية الشاعر لا السياسي، لكن يدي غيفارا ما زالتا تأخذ بأذيالي وأنا أتجاوز الستين بقليل، وصار مصطلح "العنف الثوري" عندي مثار جدل.
غير أن تلك المرأة الفلسطينية ما زالت تلاحقني، مثل غيفارا، تبتز عاطفتي القديمة وتحرضني على مواصلة الكفاح. قالت: أنا أحبك لأنك تشبهني. قلت وأنا أحضنها بصلافة شاعر: أنا أحبك لأنك تختلفين عني. أن نكون ثواراً يعني أن نكون ثوريين على كل الجبهات: استعادة آدميتنا والتصدي للفاشية العربية والتمسك بالحب عاطفة أبعد من الجسد وأقرب إلى الجنون.
ثم استدركت مثل سنونو نادم: لا يمكننا أن نكون عشاقاً لطيفين من دون أن نكون أحراراً. لا يستقيم الحب مع الخوف.
على أننا، هي وأنا، لم نتوقف عن الحب لكننا توقفنا عن الحوار.. ثمة حوار آخر يجب ما قبله. وأنا سأحزم حقيبتي نحو كردستان عام 1981 مثقلا بأسئلة شتى، منها: كيف سأترك هذه المرأة وحيدة من بعدي. فتأسيت بجواب جاهز: الحب يأتي ويمضي، ولا حب يدوم إلى الأبد. بينما كانت أصابعي وأنا أحزم حقيبتي على غاية الكآبة.
قبلتها بعنف ثوري تقليدي ونامت في حضني ونمت في حضنها بلا ندم.
ثمة كأس نبيذ أحمر كنا نرتشفه معاً، على جانب السرير، والستارة تنهمر على شباك بيروتي بطرازه الفرنسي مزينة بفراشات بيضاء تطير على حقل محترق.
هكذا ختمت ليلتي الأخيرة في بيروت قبل الالتحاق بالجبل العراقي مقاتلاً غيفارياً أراد اللحاق بالعيّار حتى باب الدار.
عندما عدت من الجبل بعد انكسار الأحلام عدت إلى دمشق لأجدك بانتظاري!
أنت امرأة من صبر ووفاء وقهوة بالياسمين الشامي.
قلتِ وأنت تجلسين على أرضية الغرفة العارية وأنا على السرير.. تمسكين بيدي تسألينني: احكيلي!.
استدركت في اللحظة: سآتي بقنينة نبيذ. الحكي أحلى مع النبيذ.
لامسنا كأسينا وكل من منا ينظر بعيني الآخر.. أو بجراحه.
قلتِ وعيناك دامعتان لا بسبب البكاء بل بسبب الرشفة الأولى لأنك لست محترفة نبيذ مثلي: لا أريد شعراً.. إحك ما حصل بتوثيق محترف.
وبدأت، رغم أن البدايات صعبة والنهايات مفتوحة.
قلت: لأبدأ من جرح حقيقي في رأسي:
عندما خرجت من كردستان إلى دمشق عبر طهران عشت مفارقات كثيرة أغلبها مؤلم ومنها اعتقالي بالمصادفة وتعرضي لانفجار حيث أجلس في غرفتي بالفندق!
كنت في مكتب أحد العراقيين للطيران لحجز تذكرة إلى الشام. وفجأة احتلت العمارة والمكتب قوة من "الحرس الثوري" واعتقلت الجميع كيفما اتفق!.
لا أعرف الفارسية وهم طبعا لا يعرفون العربية.. وأخذت رشفة نبيذ أحمر "ريان" وبعدها مازتي العتيدة من شفتيك.
قلتِ وعيناك لما تزل تدمعان لا بسبب البكاء بل بسبب نشوة النبيذ: بلا غلاظة.. أكمل حبيبي!
وأكملت:
حشرونا في حافلة سارت بنا زهاء الساعة باتجاه مكان لا أعرفه.
وصلنا المكان فكان سجنا رهيبا لأجد نفسي في زنزانة مساحتها مترين في ثلاثة أمتار أو أقل قليلا.
نسيت أن أخبرك أن صديقي حمودي شربة كان معي. فاحتل الزنزانة المجاورة.
قلتِ وأنت تسكبين النبيذ في كأسنا الثاني: آه أعرفه، هو عضو "فرقة الطريق" التي غنت في بيروت أيام الحرب الأهلية.
أجبت: نعم، كان رفيق رحلتي.
وتداعيت: الزنزانة فارغة إلا من اسفنجة عارية بمثابة فرشة.
بعد ساعة جاء أحدهم ليسألني بلهجة بصراوية عن حاجتي عرفت آنه من أهالي الأهواز.
صححت لي: الأحواز.
صححت لك: أنتم العرب معقدون قومياً!.
ضحكت أنت وقبلتك أنا قبلة جاءت خطأ: في زاوية شفتيك.. لأكتشف أنها القبلة الصح إذ يقبل أغلب العشاق حبيباتهم في الشفتين بينما جاءت قبلتي عند التقاء الشفتين.. لأنني لست من أغلب العشاق.. أنا أندرهم.
أثارتك عبارتي لتخلعي قميص نومك.. أنت قلت هذا. صح؟
صح، ولكن أكمل!.
أكملت وإن بشيء من التثاؤب: طلبت منه علبة دخان فقط. أعطيته المبلغ فراح ولم يعد! أعني ذلك الأحوازي.
بعد ساعتين فُتحت كوة الزنزانة ليطل منها وجه بدا مسؤولا. بنظارات طبية وذقن مرتب وقميص أبيض جدا. لم أر قميصاً بهذا البياض.
سألني عن قضيتي فأخبرته. المترجم هو الأحوازي نفسه. "الأحوازي" كما تفضلين.
قلت: كنت في مكتب الحجز فاعتقلونا. وها هي الليزاباسيه (وثيقة سفر لسفرة واحدة فقط) فرد: أنت تكذب.
رددت: لا أكذب، لأن البريء لا يكذب. أخبرتك الحقيقة.
أغلق كوة الزنزانة وذهب.
بعد ساعتين فتحوا كل الزنازين لقضاء الحاجة.
خرجت مع من خرجوا وإذا بحمودي شربة الذي همس بأذني: تعرف رفيق؟ كنت أغني في الزنزانة: السجن ليس لنا نحن الأباة!! نشيد الشيوعيين الشهير.
ضحكت جدا قبل أن أرد عليه: انها بضع ساعات يا رفيقي فماذا كنت ستغني لو حكمونا بالمؤبد؟؟
*****
لننم الآن، وفي الصباح رباح. تعبت من الحكي.. لكنني لم أتعب من الحب. تعالي في حضني لأرتب الزهور في مزهرية وجهك الغالي. تعالي حبيبتي، لنعيد النجوم إلى أماكنها بعد أن بعثرتها الحرب.
بلا هبل.. إنت مجنون.. شو ترتب لترتب؟ إنت لبكتني وخربطت لي أحوالي.. احكي لنشوف شو آخرتها...
سأحكي.. سأحكي بشرط لا تتركي يدي غريبة.
******
لم أكن أتخيل نفسي سأمضي ليلتي في زنزانة إيرانية بلا تدخين. لكنني أمضيتها بنجاح ساحق، رغم صعوبات في التنفس.
قدموا لنا "شيئا" مطبوخا! لا هو بالشوربة ولا هو بالخ___ءءءءء، ذقته لكنني لم أكمله. عرفت أن الجوع يضاعف الأرق. لكنني نمت بعد نهار مخيف وليل مضغوط داخل زنزانة إيرانية. حاولت التحدث مع جدران زنزانتي فردت بالفارسية التي أجهلها. الليل مضغوط داخل زنزانة.
قالت الجدران: أنت لست وحيداً فوق العادة، كما تظن .. كثيرون قبلك كانوا يعتقدون أنهم وحيدون فوق العادة.. حدق بي لترى أسماءهم ومواعيدهم وأشواقهم لتعرف أنك لست وحيداً فوق العادة، أيها العراقي.
عجبت للجدران تتكلم العربية.
اعتقد أنني نمت. ولهذا سمعت الجدران تتكلم العربية، كيف وأين لا أتذكر.
في صباح اليوم التالي حيث اقتادونا للتحقيق..
جلس على الأرض مراهقان إيرانيان وجلسنا قبالتهما. المراهقان هما المحققان.
همست بمعلومة مهمة في إذن حمودي: لا تجب بإجابتي نفسها.
قلت أنتِ: أنا سجنت في سجن إسرائيلي وأعرف ملابسات التحقيق مع شخصين معاً أو على انفراد. أكمل رجاء. وقبلتني ثانية، وعلقت: أحب البوسة عند زاوية الشفتين، خارج عادات العشاق.
واسترسلت مثل حزبي محترف: والسبب هو مخافة تورطه بمعلومة لا يعرف الخروج منها.
قلت في نفسي وأنا أحدق في عيون المحققين المراهقين: هل يعقل يا عواد أنك لن تستطيع أن تقنعهما بما لديك؟
أدركت بعد بضعة أسئلة أن لا تهمة ضدنا نحن الاثنين.
المترجم كان الأهوازي نفسه.
سألته مازحا: وينك؟ شو لا أبو علي ولا جكايره؟ فضحك.
سأله المحقق ماذا قلت فأجابه بالفارسية وربما كان يكذب.
من بين أسئلة المحقق: لماذا دخلتم إيران بلا أوراق رسمية؟
أجبت: نحن هاربون من الجيش لأننا ضد الحرب. كنت أكذب طبعا.
حاولت أن أجيب باختصار ومن دون الدخول في التفاصيل حيث الشيطان.
سأل المحقق الثاني: عمرك تجاوز الثلاثين فلماذا لم تتزوج؟
هنا أدركت أن تهمتنا تافهة وعلي أن أمزح فرددت: لو زوجتني من إيرانية جميلة فهو فضل منك لن أنساه.
ضحك المحققان. ضحك المترجم الأهوازي/الأحوازي على مضض.
تأكدت أننا سنخرج بعد انتهاء التحقيق وهذا ما حصل.
علقت امرأتي وهي تنسحب من بستان تفاح ناضج: يا حقير، هل فكرت بالزواج بعيداً عني؟
******
نحن الآن عاشقان التقيا بعد سنتين ونصف السنة.. وأنا سعيد الحظ لأنك لم تحبي شخصا آخر.. ألا نخرج قليلاَ؟ أنا عازمك على قهوة في فندق الشام، وبعدها نفطر في مطعم "شاميات" في "الجسر الأبيض".
وهي ترتدي ملابسها سألتني أن أغلق الشباك الصغير الذي يعلو النافذة الكبيرة.. مددت يدي لأغلقه فاستوقفتني: أثارتني هذه الحركة.. أنت طويل وأنا يثيرني الرجال طوال القامة.
فعدنا إلى السرير.
خلعت ملابسها وأنا تخليت عن شورت وتي شيرت. فانغمسنا بما ينغمس فيه رجل وامرأة تفارقا سنتين ونصف السنة ليعثرا على بقايا ذاكرة مفعمة بالحب والشبق.
صبت كأسين من النبيذ. وشربنا نخب غيفارا الذي غاب.. غيفارا الذي حضر.
سألتني ووجهها أقرب إلى وجهي من ضميري: أكمل حبيبي!
(*) فصل من مشروع كتاب