أفقٌ لا يُرى،
في امتدادِ الظلامْ
عندما،
كلُّ هذا الضياءِ
تجدْهُ، ولا شيءَ قبلُ ولا شيءَ بعدُ،
مثل فانوسِنا مُعتِما،
يتساوى سريرُكَ منطفئاً في نعاسِ الفراغِ
وكرسيُّكَ الخوصُ،
والليلُ لوّنتَهُ بالبنفسجِ،
بينا أرادَ لهُ اللهُ أسودَ..
أنتَ تغيّرُ ذوقَ الإلهِ العنيدْ
وتجعلُ من فقراءِ البطاطا تعيسينَ في يوم عيدْ
لك العبقريةُ تزحفُ تحتَ وسادتكَ الخشنةِ مثل يدِ عاملِ منجمْ،
لتجسّدَ ذاكَ الذي يجلسُ أقصى صحونِ البطاطا،
بنظرتهِ الذاهلةْ،
فيلسوفاً يغيّرُ عالمَهُ بمزيدٍ من الأسئلةْ.
أربعة أزواج يتناولون البطاطا في غرفة معتمة، تشبه حياة الفلاحين أو عمال المناجم، رغم الفانوس النفطي الذي يتدلى من السقف، بلمسة الأصفر الخجول وسط العتمة.ثمة حركة مسرحية في اللوحة حوارها أعين الجالسين وأيديهم حول المائدة الفقيرة، وهم زوجتان وزوجان وصبية تدير ظهرها للمتفرجين. الزوجة التي على يسار اللوحة تصب الشاي بينما يقدم لها زوجها حبة بطاطا مسلوقة في لحظة كرم متبادل وتضامن إنساني أكيد. بينما يغرس كل من الزوجين الآخرين شوكتيهما في صحنيهما، ويستغرق الزوج بنظرة ذاهلة ولكن ضمن التكوين التشكيلي المترابط بين العناصر الرئيسة للوحة، ليحوله فان كوخ "فيلسوفاً يغيّرُ عالَمَهُ بمزيدٍ من الأسئلةْ".في خلفية اللوحة ثمة نافذتان بلا وظيفة تؤديها النوافذ العادية، واللون حلٌّ مبتكرٌ لمشكلة التظليل في اللوحة التقليدية، ولكن النافذتين لا تعبران عن نفسيهما لا بضوء يأتي من الخارج ولا شكل "شخصيا" لهما، فهما لا أكثر من مستطيلين كئيبين بلا ظهور واضح.. كأنهما جزء من جدار معتم لا غير، ولا ينفتحان على أي أمل.عتمة اللوحة، ظلامها تقريباً، عنصر درامي ضروري للتعبير سيكولوجياً عما يعتري الشخصيات من ظلام ولم ينفع الفانوس النفطي إلا بإلقاء لمسة الأصفر على الملامح المجهدة، وهي ملامح جعلها الفنان متشابهة، إلى حد كبير، ليعمق من وحدة البؤس بينها، تعزز هذه الوحدة أيدي الجالسين وقد رسمها ناحلة جدا تكاد مفاصلها العظمية وسلامياتها تخترق الجلد.على أن من يدقق النظر في اللون (المعتم) سيرى، عدا الأصفر ممثلاً بفانوس النفط، ثمة الأزرق المشوب بالخضرة، لكن ضرورات التكنيك لا تنقذ المشهد من أساه العميق.جعل الفنان من وجوه الجالسين في مستوى واحد ليبلغنا رسالة أخرى موجزة: إنها وجوه في مستوى واحد من الجوع والألم، وثمة ذاك التشابه في الملامح أيضاً، حتى ليتعذر التفريق بين وجه المرأة ووجه الرجل، لفرط القسوة.. وجوه خشنة تؤدي حياة خشنة حتى في لحظة استراحة يتناول أصحابها فيها الطعام.أما فان كوخ نفسه فيعدّ لوحته "آكلو البطاطا" أفضل أعماله!.فان كوخ أحد أشهر كادحي الفن التشكليلي في تاريخ هذا الفن، فنان آثر أن يجعل الفن مقاومة شخصية ضد قبح العالم وقسوته، وهو الذي عاش أسوأ أشكال الفاقة والألم في حياته، ما جعله نبياً في هيئة فنان يحمل رسالته للمحرومين والمهمشين والجائعين الذين عايشهم عن قرب، كما في لوحته هذه (آكلو البطاطا) ورسائله إلى أخيه ثيو نقلت إلى العالم مبلغ القسوة التي تعرض لها في حياته، لكنه كان يتمتع بطاقة استثنائية على العمل ولم يستسلم.يقول في إحدى رسائله: " أعتقد أن الحياة قصيرة جداً. إنها تمضي بسرعة. مادام الإنسان رساماً فعليه أن يرسم دائماً.. ما أفكر به هو العمل المتواصل".وفي رسالة أخرى قال: "بي شهوة جارفة وحب أعمى للعمل. ما دام حولي لون جديد فأنا في حماسة خارقة، أما التعب فهو ليس مشكلة بالنسبة لي".
فان كوخ.. آكلو البطاطا
[post-views]
نشر في: 4 يناير, 2016: 09:01 م