القسم الثانيوأكملت:بما أننا لم نأكل شيئا منذ البارحة، والآن نحن على وشك الظهيرة بعد انتهاء التحقيق. نسيت كيف يمكن للمرء أن يتناول الطعام. قلت لصاحبي: سآكل المطعم كله بطعامه وعماله وزبائنه. ضحك صاحبي ضحكة جائع: كانت شفتاه يابستين وعيناه صحنين فارغين.
القسم الثاني
وأكملت:
بما أننا لم نأكل شيئا منذ البارحة، والآن نحن على وشك الظهيرة بعد انتهاء التحقيق. نسيت كيف يمكن للمرء أن يتناول الطعام. قلت لصاحبي: سآكل المطعم كله بطعامه وعماله وزبائنه. ضحك صاحبي ضحكة جائع: كانت شفتاه يابستين وعيناه صحنين فارغين. تذكرت تشارلي تشابلن: رأيت صاحبي دجاجة مشوية.
بعد مسيرة عشر دقائق عثرنا على مطعم فاخر. يمكن إذن ان تتجاور أشد الزنازين ضيقا مع المطاعم الفاخرة.
جاء العامل يسألنا ماذا نأكل. أعرف الأكلات الإيرانية الشهيرة ولا حاجة لمعرفة اللغة. ...
"آب كوشت وچلو كباب وباقلابلو (رز بالباقلاء مع شبنت)" ولبن وسلطة. ثم أوضحت كيلا تشكل اللغة وأنا أشير بأصبعي على جميع الأكلات التي أعرفها ولا أعرفها على صفحة "المينيو" ما استغرب له العامل بينما كان حمودي يفتح عينيه على سعتهما وهو يضحك أو يبكي.
اكتملت الطاولة بصحون عديدة تكفي لأربعة أشخاص أو أكثر هبطوا من جبال وحشية أو خرجوا للتو من زنزانة إيرانية.
لكن ما حصل لن تصدقيه!!
سأكمل لك الحكاية في مطعم "شاميات" مع الفول والحمص والبصل.
ما أن دلفنا المطعم حتى رأيت حمودي.. كان وحيدا يتناول أفطاره: بيضأ وحمصاً وبصلاً.
قلت لحبيبتي: هذا الشاهد العدل.
وأكملت حكايتي الإيرانية:
لم أتناول مما أمامي في ذاك المطعم الفاخر سوى لقمتين لا أكثر.
لا أعرف السبب. ربما هو الجوع الشديد الذي لا يتقبل طعاما على هذه الوفرة.
عقب حمودي من تحت قميصه البنفسجي: لا، عواد، لحظتها، لم يزل مرعوباً.. المرعوبون لا يأكلون.
كان صاحبي حكيماً.
******
عدنا إلى غرفتي في الشيخ محيي الدين.. هي غرفة ملفقة لا تعدو أكثر من قبو ضيق حتى على عصفور مطيع.. لا أكاد أقف حتى يمس رأسي السقف.
قالت امرأتي بنبرة سطحية: كم اشتقت لشراشف سريرك الزرق.
قلت وأنا أتآمر على جسدها الطويل: سأحرمك منها حتى لو وضعت قمرك في يميني.
فتحت قنينة نبيذ أحمر محلي من صناعة "الريان" وصبت كأسين.. قبلتها بعد الرشفة الأولى متناولا مزتي اللذيذة.
وأكملت بناء على رغبتها:
أقمنا في فندق رخيص وسط العاصمة طهران بانتظار سفرنا إلى دمشق، أنا وصاحبي حمودي.
فجأة هز انفجار عنيف ليس طهران وحدها بل الكرة الأرضية برمتها، كما خَيل لي، وأنه بدرجة مليون على مقياس رختر.
جدران غرفتي التي أقيم بها كانت زجاجية من ثلاث جهات. يعني لو رُميت بحجر عادي لكانت الشظايا خطرة على من في الغرفة فكيف بانفجار من صناعة الخبراء. ... أظنه تدبير من نظام صدام حسين.. لست متأكداً.
لم أنتبه إلا والدم يغطيني من رأسي حتى أصابع قدمي.
المفارقة هي أنني ما شعرت بأي ألم!!
تذكرت أمي عندما تعلق في مثل هذه الحالات: "من حرورة الصواب"! (بسبب حرارة الإصابة لا يشعر المرء بالألم).
خفت حقاً، فلربما أنا مصاب بشكل خطر، لكنني لم أحس.
حاولت تجفيف دمي بما طالته يدي من مناشف بينما السرير يغرق بالشظايا.
لا أحد من رفاقي كان موجودا تلك اللحظة. حتى حمودي!
خرجت إلى الشارع بلا هدف. كان الجرحى ينقلون حتى على الموتوسيكلات.
وأنا أتفرج أو أنتظر غودو إيرانيا يشفق على عراقي ينزف.
لم أتبين، حتى تلك اللحظة، أين إصابتي بالضبط.
كانت قدمي اليسرى تنزف أيضا، بالضبط عند سلامية الإبهام.
وضعت امرأتي يدها على فمها تعبيراً عن الصدمة.
لكنني أكملت:
تجاهلت جرح قدمي، وقلت في نفسي: لا بأس حتى لو فقدت قدمك كلها يا ابن ناصر، المقاتل الثوري والحالم الكبير لفرط اليأس الكبير.. لكن المعضلة هناك، فوق، في جبهتك النازفة. لربما هو جرح أعمق من عظم الجمجمة. لكن ثقافتي الطبية المحدودة أسعفتني: لو كان الجرح أبعد من الجمجمة لكنت ميتا الآن.
أعرف أنني مصاب في عقلي منذ أدركت ضرورية الحرية. لكن انفجار قنبلة من صنع خبراء سيطيح ما تبقى من الأحلام واليؤوسات الكبيرة معا.. كأن القنبلة استهدفت أحلامي.
هنا اقترب مني مواطن إيراني يقود دراجة نارية وتوقف قربي لأفهم منه أن: اصعد خلفي!
صعدت خلفه وكانت دمائي ما تزال تنزف!
لا صوت في المدينة الهائلة الضاجة بالناس والجنود والحرب سوى صوت سيارات الأسعاف وهي تنقل المصابين بالعشرات إلى أقرب المستشفيات.
ترجل صاحب الدراجة وأعانني وهو يمسك بذراعي لندخل أقرب مشفى.
هنا، في المشفى رأيت الهول: أكوام اللحم البشري تملأ ممرات المشفى حتى الباب الرئيس.
تحدث صاحب الدراجة إلى طبيب يركض لكنه لم يجبه لأنه كان يركض.
أوقف طبيبا آخر فنظر إلى جرحي، على عجل، وكلمني بالفارسية فرجوته أن يكلمني بالانكليزية. ففعل:
جرحك بسيط. اذهب إلى أقرب صيدلية ليضمدوك فقط!
خجلت من نفسي لأنني تسببت بتأخير طبيب لدقائق يحتاجه فيها من هو أحق مني.
لكن السؤال الذي لم يزل يحيرني هو: من أين جاءت تلك الدماء كلها التي أغرقتني من رأسي حتى رجليّ؟
لم يزل ثمة أثر جرح صغير فوق حاجبي الأيمن يذكرني بليلة طهران المتفجرة كلما تطلعت إلى مرآة.
قبلتني امرأتي عند الجرح الصغير الذي يعلو حاجبي الأيمن ونمنا في قيلولة امتدت حتى نبيذ الليل.
(*) فصل من مشروع كتاب