هذا ليس عنوان فيلم سينمائي أو اسم رواية واقعية، بل هو اسم واحدة من أعظم اللوحات التي رسمت على مرّ العصور، وبريشة فنان ملهم، هو يرون بوش (1450-1516). نعم انها عربة القش التي غادرت متحف البرادو في مدينة مدريد قبل أيام لتستقر في متحف بويمانس في مدينة روتردام الهولندية. أخيراً انطلقت هذه العربة من الجنوب لتستقر في البلد الذي رسمت فيه قبل خمسة قرون. كنت قد شاهدتها في وقت مضى في البرادو وتمتعت بهذه الهدية الثمينة التي منحتني الظروف فرصة أن أطل عليها وأتأمل الإعجاز الذي تنطوي عليه، وها أنا أقف أمامها في هولندا مرة أخرى وكأني على موعد مع الجمال الذي يعيد نفسه كل مرة من جديد. الجمال الذي يقول الكثير ويشير الى هؤلاء الأساتذة الكبار الذين مضوا وتركوا بين أيدينا هذه الكنوز التي جعلت حياتنا أجمل وأكثر روعة ورقياً ومعرفة.
رسم يرون بوش هذه اللوحة سنة 1515 على شكل عمل ثلاثي، أي انها متكونة من ثلاثة أجزاء مرتبطة وتكمل بعضها، وهي على غرار أعمال بوش الأخرى مكتظة بالأشخاص والكائنات الخرافية الغريبة التي كان مولعاً برسمها. وهي مع بضع لوحات أخرى للفنان، قد أثَّرَت على الكثير من الفنانين وحتى المدارس الفنية، حيث امتد تأثيرها من بيتر برويغل ووصل حتى السريالية في القرن العشرين. يظهر وسط اللوحة حشد من الناس، يتدافعون ويتصارعون بشكل هستيري وهم يحاصرون العربة، وكل واحد منهم يحاول الحصول على كمية من القش. تشغل العربة المكان الرئيسي في العمل ويجرها مجموعة من الشياطين والشخصيات الممسوخة التي يجيد بوش رسمها بتقنية وخيال نادر، بينما يتبع العربة موكب من كبار الشخصيات مثل الإمبراطور الألماني بتاجهِ المرصع بالجواهر وملك فرنسا مع قبعته التي فيها رمز الزنبق وكذلك البابا وأحد الدوقات مع قبعته ذات الألسنة، وهم يحملون أعلام البلدان والمناطق التي يمثلونها، ونرى البابا كيف يلتفت الى أحد القادة في عملية نفاق واضحة. رسم بوش هذا العمل على شكل ثلاثة أجزاء مكملة لبعضها ووزع على هذه الأجزاء عدداً كبيراً من المجاميع التي تشير الى حكايته مع هذه اللوحة، وما أراد أن يرمز اليه. فهو اراد هنا - رغم مسحة التشاؤم التي تغطي العمل – أن يشير الى الأمل والغفران، وهنا استعمل القش كرمز كبير ومؤثر، القش الذي يشير في الأمثال الهولندية الى الخداع والغرور والمادية، كقولهم (العالم عبارة عن كومة من القش) و (كل جسد هو قش) والكثير غيرها، وهم يقصدون هنا بأن العالم زائل.
في شكل استعاري واضح أراد بوش أن يشير الى الجنة والنار في هذا العمل، ومن الواضح أنه قد رسم الجزءين الجانبيين للعمل في وقت لاحق، حيث يمثل الجانب الأيسر الجنة، بينما يشير الجانب الأيمن الى الجحيم. ومثلما وضع السيد المسيح في الأعلى تلفه بعض الغيوم وكذلك مريم وبعض الموسيقيين يجلسون على قمة عربة القش، فهو أيضاً وضع أحد الدجالين في وسط العمل وقد لُفّ حول عنقه حبلاً، وكذلك تظهر مجموعة من النساء بسحنة وجوههن الداكنة، حيث تشير قبعاتهم البيض الى كونهن غجريات (حسب تقاليد تلك الفترة) وكان الغجر يرمزون في ذلك الوقت للتسول وممارسة الصيد بشكل غير شرعي والسرقة وحتى اختطاف الأطفال والاتجار بهم. وكذلك تظهر سمكة الرنجة الكبيرة في الجهة اليمنى مع أحد الشياطين والتي ترمز حينها الى الربح عن طريق الاحتيال كما هو مثبت في الأمثال والحِكم الهولندية. كذلك نرى المتسول الأعمى الذي يرافقه صبي، وهنا يشير الرسام من خلال الشارة التي وضعها فوق قبعة الصبي الى الكذب والخداع. بالإضافة الى تقنيته العالية، هناك رموز كثيرة بثها يرون بوش في هذا العمل، وهي كلها تشير الى موهبته الفذة وعظمة فنه وقوة تأثيره. هذه الاشياء مجتمعة، وضعته بلا شك في مصاف الفنانين العظام على مرّ العصور.
عربة القش
[post-views]
نشر في: 8 يناير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...