مُعلّقاً على سيرته الذاتية ( حلمُ غايةٍ ما )
القسم الثاني( ... إن الطريقة المناسبة للخروج من المأزق الخاص بإشكالية اللامنتمي كانت ببساطة أن يغدو المرء عملياً أكثر من ذي قبل وأن يبدأ في خاتمة الأمر بتلمّس حقيقة أنّ ثمة حلولا لصيقة بالواقع الأ
مُعلّقاً على سيرته الذاتية ( حلمُ غايةٍ ما )
القسم الثاني
( ... إن الطريقة المناسبة للخروج من المأزق الخاص بإشكالية اللامنتمي كانت ببساطة أن يغدو المرء عملياً أكثر من ذي قبل وأن يبدأ في خاتمة الأمر بتلمّس حقيقة أنّ ثمة حلولا لصيقة بالواقع الأرضي للإشكالية الوجودية ، وأن العالم ليس مكاناً مُعبّأً بالضد من الفنانين بما يوحي لهم أن الأبدية تعني موتهم ،،، الخ من القناعات المبتسرة ، وأن دوستويفسكي أخطأ خطأ فادحاً عندما صرّح بأن علينا إعادة تذكرة دخول الحياة إلى الربّ ( إشارة إلى فعل الانتحار - المترجمة ) طالما نحن نعيش في عالم مروّع . يمكن لهذا الأمر الكئيب أن يتخذ شكلاً آخر مختلفاً تماماً : ففي برهة حقيقة كاشفة ومتى ما اتخذتَ توجهاً عملياً مباشراً نحو الأشياء ، ومتى ما انطلقتَ في الحلم بغايةٍ ما وواصلت ذلك الحلم فستشرع فجأة في رؤية حقيقة الأشياء وكنه جوهرها العميق - وهنا مكمن الأساس الذي شيّدتُ عليه هيكل نزعتي التفاؤلية كما أرى ) .
( ... بقدر مايخصّني الأمر فمن المؤكّد أن بداياتي كانت شاقة للغاية ، ولكني أرى اليوم أن تلك البدايات كان مقدّراً لها أن تكون شاقة على النحو الذي كانت عليه ، وأظن أن شتاينر Steiner ( 3 ) كان صائباً في قوله "لاتشتكِ أبداً من نصيبك في هذه الحياة لأنك أنت من اختار هذا النصيب حتى قبل أن تولد" . هكذا هو الأمر إذن : نشأت وسط خلفية عائلية كادحة بحيث ترتّب عليّ العمل في مصنع وأنا ابن السادسة عشرة فحسب ، وقد كرهت ذلك العمل إلى حدود غير متصورة ثم مضيتُ على نحو تدريجي في الكفاح وإيجاد مسلك لي خارج القوة الجوية الملكية وأماكن أخرى كثيرة بعدها ، وبعد ذلك رغبت في الزواج ، والأمر الغريب حقاً أنني غدوتُ أكثر بشاشة وانشراحاً بعد أن اختبرت كل تلك التجارب القاسية . عندما تركت الخدمة في القوة الجوية الملكية كنت قد قرأت حينها الكثير عن نيتشه و"هكذا تكلّم زرادشت" إلى جانب رابليه Rabelais ( 4 ) و جون ميللينغتون سينغ ( 5 ) وكتّاب آخرين من الذين خبروا التجربة الأرضية ولم يكتفوا بالتهويمات الأثيرية . لذا عندما أعدتُ قراءة ( يوليسيس ) لم أعد أشعر أن هدفي الأسمى هو أن أكون نسخة من ( ستيفن دايدالوس ) : الفنّان ، بل غدوت أكثر تعاطفاً مع ( بك موليغان ) : الشخصية الجويسيّة التي تتواءم مع شخصية أخرى تدعى أوليفر سانت جون غوغارتي Oliver St. John Gogarty ( 6 ) الذي كتب قصيدة عظيمة تُدعى (رينغسيند Ringsend ) عام 1878 ( رينغسيند : إحدى الضواحي الجنوبية لمدينة دبلن الإيرلندية والتي يحدّها نهران - المترجمة ) .
هنا طفق ويلسون وبتلقائية منتشية يعيد الاستشهاد بأبيات تلك القصيدة :
سأعيش في رينغسيند
مع معشوقتي حمراء الرأس
وحيث الضوء الخابي
يضيء باب الحجرة
وسأواظب كل ليلة
على سماع صرخات حبيبتي المعاتِبة
التي ستهيم على وجهها في نهاية المطاف
وتطرق أبواب الحانات الفارغة
طلباً لسكينة نهديها البرّيين المتوفزين
صُحبة أغنياتي الفتية
ولاتنتهي من عملها إلا بعد أن تشعر بالانعتاق
من الآثام المفرطة !!
الآثام المتخيّلة ، الغضوب
والسخيفة
حتى تحلّ السكينة آخر الأمر
هذا هو جلّ ماسأفعله
حيث المصباح الصغير يتبرعم مزهواً
مثل زهرة فواحة في طبق حساء ساخن
ومن الحديقة الخلفية
يطرق أسماعي صوت البحر
الخافت ، الهامس ، العصيّ على التدجين
( ... هذا هو حقاً مايبدو لي الجواب الحقيقي - إنه الإنشغال العملي المتصل بالحقائق الأرضية ، ومتى ماكنتَ على شاكلة غوغارتي مدركاً لأهمية كونك كائناً أرضياً وليس كائناً محلقاً في تهويماته السحابية مثل ستيفن الممتلئ مرارة وشفقة على الذات وندباً لها فستعرف حينها أن ستيفن كان طول الوقت يهيم على غير هداية وهو يتنفس هواء اصطناعياً في حين يبدو موليغان مفضّلاً عليه إلى حدود لانهاية لها وفي كل أوجه المقارنة المحتملة مع ستيفن ) .
( ... على أية حال ، حالما وضعت يدي على هذه الحقيقة وعلمت جوهر مايجري في حقيقة الأمر والطريقة التي يمكن بها عيش حياة حقيقية حينها غدوت وعلى نحو مفاجئ شخصية مختلفة عمّا كنته من قبلُ . عندما تركت الخدمة في القوة الجوية الملكية صرتُ من فوري إنساناً منشرح السريرة ، عمليّ التوجّه ، مهيّئاً للتجوال مثل أي صعلوك ، وقادراً على أداء كل الأمور اللصيقة بحياة الصعلكة ، وتلبّستني يقينية حتمية مطلقة بأنني لابد بالغٌ كل مانويت تحقيقه وفي وقت قد يطول أو يقصر ) .
( ... عندما قابلتُ جوي لأول مرة كنت في غاية الانشراح لرؤية ابتسامتها الرائعة العذبة والجميلة ، وسرعان مافكّرت : "ياإلهي ،،، إنها ذلك النوع من النساء الذي لطالما تطلّعت إليه " ثم عرفت لاحقاً أنها كانت مرحّبة بي وحينها غمرتني غبطة فائقة لأنني كنت واثقاً تمام الثقة أنها كانت واحداً من بين الأشياء التي عزمت على امتلاكها في هذا العالم حتى قبل ان أولد !! - كانت جوي النوع المثالي للمرأة التي تصلح زوجة لكاتبٍ مثلي ) .
( ... لكن على كل حال كانت المسألة المهمة في الموضوع برمّته هي مصارحتي لِـ ( جوي ) بقولي :"أنا عبقري وسأكون كاتباً تطبق شهرته الآفاق عمّا قريب" ، فأجابتني جوي باقتضاب "أووووه ، نعم ،،،، " ثم أردفت أنها تؤمن إيماناً مطلقاً بقدراتي ، وحينها سألتُها بوضوح : "ماالذي سيحصل لو فشلتُ ولم أتمكن من بلوغ أي نجاح مرتقب من النوع الذي أتوق إليه ؟ " ، فأجابت جوي : "أعلم أنك ستنجح بالتأكيد" - إذن هو ذلك النوع من الشعور العملي الملتصق بالانشغالات الأرضية والذي جعلني واثقاً ثقة مطلقة بنجاحي ، لذا عندما نُشِر كتابي "اللامنتمي" وبرهن أنه نجاح عظيم وهائل بين ليلة وضحاها فإنني لم أكن البتة متفاجئاً بنجاحه المؤكد : إذ لطالما علمت أن هذا هو ماسيحصل في قابل الأيام ).
( ... لكن بالطبع مالم أكن أتوقعه كان ذلك الوقت المرعب لي عقب نشر كتابي اللاحق لِـ ( اللامنتمي ) ، وأخافني ذلك التراجع المرعب في الاحتفاء بي إلى جانب الحملات النقدية القاسية التي ماوجدت لها تفسيراً مقنعاً ، ثم أنتجت كتاباً حسبته لامعاً في ميدانه لكن لم أحصل في مقابله سوى البعض القليل من المراجعات البعيدة عن أقلّ اعتبارات المروءة والروح السمحة المتفهّمة ، ثم حصل أن انطلقت بجولة محاضرات في الربوع الأميركية حيث عاينتُ وعلى نحو مباشر وجلي الوضوح مدى عظم تأثيري في الحضور الطلّابي الذي كان يراني "ألفيس بريسلي" متلفّعاً بجلباب المثقفين !! ، وعندما كنت أشاهد الطلاب هناك يتحلقون حولي زرافاتٍ كنت أتساءل : " كيف يمكن لامرئ يحوز ألمعية كتلك التي أحوزها وبرغم ذلك لايبدو قادراً على بلوغ أيّ من أهدافه المبتغاة ، وفوق ذلك هو مفلسٌ على الدوام ؟ !! " ) .
( ... لم أدرك إلا مؤخراً الجواب على تساؤلي : إن ماكنت أفعله بحياتي طيلة الوقت هو دفعها إلى الأمام على نحوٍ متواصل ، ولو حصل ونلتُ النجاح الذي كنت أتطلّع إليه لكان الأمر سيتسبّب حتماً في كارثة مؤكدة لي ولما استطعت التعامل مع آثارها المدمرة في أطوار لاحقة من حياتي ) .
( ... كانت الأمور في غاية الصعوبة أحياناً ، ولكن كم أتمنى لو كنت أدرك حينها أن تلك المشقات كانت أساسية لعملي طول الوقت ، ولكن ربما كان الأفضل حينها أن لا أدرك كم كانت تلك المشقات مقبولة لأنني ربما كنا حينها سأخفف من زخم كفاحي المتواصل بلا هوادة . على أية حال أظن أن الأمور مضت معي دوماً على نحوٍ جيد وبطريقة تدعو للدهشة لأنني كنت قد وفّرت لنفسي إعدادات جيدة بصورة مسبقة وهذا هو واقع حال حياتي في هذه اللحظة (ينبغي أن نتذكر أن ويلسون يصرّح بهذا الأمر عام 2004 وبعد وقت قصير من نشر سيرته الذاتية - المترجمة ) . أنا هنا أمامكم وقد أنجزت عمل حياتي الذي توجّب علي إنجازه وأودعته في سيرتي الذاتية وعلى نحوٍ تبدو معه هذه السيرة سجلاً لما كنت أفعله طيلة حياتي . إن سيرتي الذاتية هي توثيق لعمل حياتي الذي انغمست فيه انغماساً كلياً ، وأرى أن سيرتي الذاتية هي كتابي الكلاسيكي الذي خُلِقتُ لأجل كتابته في هذا العالم . ثمة الكثير من الأمور الأخرى - إضافة لما كتبت أصلاً - ينبغي علي كتابتها لأن ذاك هو عملي الأساسي الذي خلِقتُ له ، ومن المفترض فينا الاستمرارية في المضي على الدوام ، ولا أظن أن هناك إمكانية لوجود من يفترِض أن كاتباً سيخاطب نفسه يوماً ما : "حسناً ، لقد فعلتُ كل شيء استوجب مجيئي إلى هذا العالم لذا أستطيع أن أركن للدعة من أجل الحصول على بعض الاسترخاء الآن !! ) .
هوامش المترجمة
( 3 ) رودولف شتاينر Rudolf Steiner: مفكر ومهندس وعالم اجتماع وفيلسوف ولد في الإمبراطورية النمساوية - المجرية عام 1861 وتوفي في سويسرا عام 1925، وقد عرف أيضاً بوصفه ناقداً أدبياً وفيلسوفاً ثقافياً . في بداية القرن العشرين أسّس حركة روحية أسماها ( الأنثروبوسوفيا ) بوصفها فلسفة باطنية نشأت من الفلسفة المتعالية الأوروبية وفكر التصوف . حاول شتاينر العثور على توليفة بين العلم والتصوف وسعى إلى خلق صلة بين المسار المعرفي للفلسفة الغربية والاحتياجات الداخلية والروحية للإنسان .
( 4 ) فرانسوا رابليه Francois Rabelais : كاتب وطبيب وراهب وعالم باليونانية وأحد الفلاسفة الإنسانيين الفرنسيين في عصر النهضة الأوروبية . كتب روايتين تزخران بالسخرية والعمق وتحت اسم مستعار ، وقد لقيتا نجاحاً عظيماً .
( 5 ) جون ميللينغتون سينغ John Millington Synge : كاتب مسرحي وشاعر وكاتب أدب رحلات ، وجامع فلكلور أيرلندي ولِد عام 1871 . كان شخصية بارزة في إحياء الأدب الأيرلندي ، وأحد المؤسسين المشاركين لمسرح آبي . اشتهر بمسرحيته فتى الغرب المدلل (The Playboy of the Western World ) التي أثارت الشغب في دبلن أثناء عرضها الافتتاحي في مسرح آبي . توفّي عام 1909 متأثراً بمرض السرطان .
( 6 ) أوليفر سانت جون غوغارتي Oliver St. John Gogarty : شاعر ومؤلف وطبيب ورياضي وسياسي إيرلندي ذو نزعة محافظة عاش في الفترة 1878 - 1957 ، وقد كان ملهماً لِـ ( جيمس جويس ) في ابتداع شخصية ( بك موليغان ) في روايته الذائعة الصيت ( يوليسيس ) .