ما أن سمعتَ نقرَ الدرابك حتى جئتني، يشماغك أحمر، ونعالك تحت ابطك، قلتَ :إن إطار دراجتك مملوءٌ بالهواء حدَّ الهبوب، وإنك أكلت البيض بالباقلاء والخسِّ والطماطم، وأمسيت الأقوى. فأخذتني على راحلتك الحديد، إلى الكَيفْ، كانت الأرض ملونة بالحُصُرِ الجولان، هم يفرشون السعف مسفوفاً، مضفوراً تحتها. لا يفرش الناس في ابي الخصيب البسط والأصواف المنسوجة في الحي بالناصرية، هي حارة وتذكّر بالماعز والأغنام والبراري البعيدة. أما الحصرانُ فهي بلابل وأسماك وبنخيل باسق مثمر. قرأ أبو معتوق من نغم (المخالف) ما تحب ان تسمع، وغنّى خليف السعيّد الأغنية التي تمنيتُ أن أسمعها منه. وبين شجرتي العنب والرمان جلسنا، شربنا الخمرة بيضاء. لم تكن كأساً كما هي التي عند الناس اليوم، إنما طاسة من البرنج. طاسة لكَ ومثلها لي. طاسة لك واخرى لي. وكأيّنٍ من السعداء الفرحِين، الثملين عدنا، وجلسنا. تصعّدُ من فرحك، وأصعّدُ من فرحي، ويأبى الليل إلا أن لا ينقضي.
كنتُ أريدُ أن أقول لك بأن الفجر على مقربة من النخل المحيط، لكنني اوهمتُ نفسي ببُعدِه، وسكتُّ، بحثتُ في الطاسة، البرنج عن قطرة واحدة من مائنا الأبيض الذي كان بيننا، فما وجدتُ. ولمّا كانت الناس تلملم زجاجات البيرة الفارغة وقشور البرتقال واوراق الخس، لمّا كانوا يجمعون الحصران المفروشة، وما ضفرته الأيدي من الخوص والجولان، إيذانا بنهاية الكِيف. كنتَ نسيتَ أين تركنا دراجتك، أنا أيضا نسيتُ، قلتَ لي: عند النخلة هذه تركتها، وتمايلتَ قليلا، هل أقول ترنحتَ. لكنني خلتك تركتها عند تلك، قلتُ لك، وهكذا. قاربت الشمسُ الطلوع، أنت تقول لي عند هذه، وانا أخالك تركتها عند تلك. وحين التفتُ صوبَ ما تراصَّ وتكردسَ من الصناديق، خلف أجمة اللوبياء، وجدتُ أكثر من دراجة هناك. هل ترك آخرون غيرنا دراجاتهم، وذهبوا يفتشون بين النخل عنها. مَنْ يدري!! أنا سحبتها من بين قضبان الحديد المتشابكة، انا جعلتك خلفي وقفلنا عائدين.
لم أوقظ أحداً في البيت، كنتُ فتقتُ لي في خصِّ بيت الأبقار فتقاً، يكفي لأدخل منه، اما أنت فقد تسلقت شجرة التوت، التي لصق البيت ودخلت، كنت أرقبُ محاولاتك العشر في تسلق الشجرة، تنطُّ على غصنها وتسقط، وتنطُّ ثم تسقط، أنا اضحك، وانت تتلوى وتحاول، حتى سمعتك تفتح الباب وتدخل. وكما لو انك لم تدخل وتخرج، سمعتك تطرق الباب، وحين فتحته لك، وجدتك بكامل هيأتك، المنجل في حزامك، والعكفة في يمينك، والفُرّوَنْد يتدلّى مخروطا من كتفك. ها، قلت لك، إلى أين؟ فأشرتَ لي أنْ أستعجِل، ومثل عدّتك كانت عدّتي، وزدتُ. كانت الريح بليلةً، وفي النهر ماءٌ كثير. قلتَ لي: هل جئتَ بالمِسَنْ، اومأتُ لكَ أنْ نعم، اعلم اننا لم نشحذ عكفتينا أمس، واعلمُ أنك خيرُ من يسنُّ ويشحذُ ويُبرِد. لا، لم يكنِ الكَرَبُ عصيّاً علينا، ولم يكن الوقت ضيقاً. هكذا، وقبل ابيضاض الشمس، قبل أن يُؤذنَ للناس بصلاة الظهر، كانت الأرض التي بيننا، تلالاً من الكرب والليف والسعف، والعقارب تسعى، خربنا على النمل مساكنه.
عصر كل يوم خميس، يُحصي الرجلُ، صاحب البستان الكربَ الذي كرّبناه، في الاسبوع، كل مئة كربة نكرّبها بدينار، وكل ألف كربة بعشرة دنانير. نعم، تقول: التكريبُ مثل بيع الباميا، كل مئة أصبع منها بمئة وخمسين فلساً. تضحكُ، كلَّ خميسٍ تكشفُ أكثر عن سنٍّك المنخورة، وأرى عروق رقبتك الغليظة وانت تضحك وتراني أضحك اكثر منك. كيس من الرز الشِّتال، مال عمارة، أبو خيط الأحمر، مَنٌ وثلث وكيسين من الطحين وعلبة دهن راعي، ومثل ذلك من السكر والشاي نعم، هي خمسة من الدنانير، وهي عشرة أيضاً. أترانا اغنياء قلتُ لك. فضحكتَ، وبانت أكثرَ سنكُ المنخورةَ. قلتَ: أغنياء، أغنياء جدا .. والليلة، الكيف في حمدان!! قلتُ لك: يا حمدان، المعاريف لو الجسر؟
بعد صلاة العشاء، بقليل، كانت الدرابك تدلّنا، تأخذ بأقدامنا، ونحن نتعجلها على دراجتك المملوءة بالهواء حدَّ الهبوب.
دراجتُك المملوءةُ بالهواءِ حدَّ الهُبوب
[post-views]
نشر في: 16 يناير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...