كنت أقتفي أثره.. أحاول أن أكون عارفاً بخطواته التي لا تمنح سوى إدراك كيف كان يتصرف.. ولماذا رافق من كان ندّه في رحلته.. كنت أتابعه كيف ينمو.. أعرف دقات قلبه وهو يجوب البراري يرعى الأغنام ويغني لحبيبةٍ مختفيةٍ في المملكة العظيمة.. قلت له: من أين تأتي
كنت أقتفي أثره.. أحاول أن أكون عارفاً بخطواته التي لا تمنح سوى إدراك كيف كان يتصرف.. ولماذا رافق من كان ندّه في رحلته.. كنت أتابعه كيف ينمو.. أعرف دقات قلبه وهو يجوب البراري يرعى الأغنام ويغني لحبيبةٍ مختفيةٍ في المملكة العظيمة.. قلت له: من أين تأتي ؟.. التفت ليسألني عن حجتي في تتبعه.. قلت له أنك موجود هنا أمامي وأنا أحاول معرفة أسرارك.. يرد علي بوجهٍ تعوّد كيف يأكل الضباع ويشرب دناناً من الماء ويمسك الأفاعي بطريقة من لا يهاب الأشياء..قلت له: إني مجرد قارئ.. أسبر أغوار واقعنا وامتداده وما يتشابه منه .سألني أن كنت قد فعلت الأمر مع آخرين. قلت له: نعم لا عليك بما فعلته ولكن أحاول أن أصل الى نتيجةٍ معك.. كلكامش صنعته الآلهة وأنت أرادتك الآلهة.. هكذا يقول كاتب الملحمة.. والرقيمات التي احتفظت بها مكتبة آشور بانيبال.. فدعني أكمل ملاحظاتي.
في الشارع المحاذي لوسط المدينة كانت صورٌ عديدةٌ لزعماءٍ سياسيين ودينيين تملأ الأعمدة الرخامية.. كانوا يبتسمون فيحيطون أنفسهم بهالةٍ من القدسية التي كلما مددت يدي عادت خاويةً الى جيبي.. كنت أرى أحدهم يرسم ابتسامةً بلهاء، فوجدته يخاطبني من ان الواقع الجديد لصالحهم، شئت ذلك أم أبيت.. لكلّ زمنٍ من يقوده.. قلت له: انكم من تصنعون هذه الهالة وليس الله.. ثم تجاوزته الى صورةٍ أخرى لرجلٍ يضع أربعة محابسٍ في كلتا يديه.. أومأت له أني لا أصدق بسمائه.. فسمعت ضحكةً تخرج لي من بطن الأرض.. كنت مرهوناً للأسئلة التي تتخثر في رأسي ولم أجد الجواب.
دخلت الى أوروك.. كانت المدينة ضاجة، توزع احتفالاتها على كل البقاع حتى إذا ما انتهت الواسعة، أمر مترفوها أن يصل الفرح الى السماء وأن تشرب الغيوم نخب سعادتهم.. كانت النساء الجميلات يمرحن ويرقصن وهن يمسكن بفحولة رجالٍ يقدمون قوتهم أمام باب المعبد حيث تتربع الآلهة منتشيةً بحزمةٍ من ضوءٍ وتمسك رأس أسدٍ له جسدٌ ضخمٌ حتى لكأنه يحتوي كل الحيوانات المفترسة.. قال أنكيدو: عليك ألّا تناقشني، سأعيدك الى اللحظة الأولى، وأنت تبحر في تفاصيل الأغاني ولعبة الناس.. يسّر لي بكلماته لكي أن أنحي باللائمة على العقل.. قال: طبع الناس أن تنساق الى القوة، لأنهم ضعفاء وهناك من ينحت اللذّة.. وحين أخرج لي ساقيه رأيت ما يشبه الكفّ بأصابعٍ من بلّور قد مرّت عليها فأحالت ربلتي ساقيه الى مرايا بلا عظامٍ قوية.. قال: أنا المتوحش الذي يصيد الغزلان بأسرع من لحظة برق، وأنوش الصافات قبل أن ترتدّ أجنحتها في خفقةٍ أخرى، وأغرف من الماء عين شلالٍ وأخلع الشجر بإصبعين.. صرت ضعيفاً أمام امرأةٍ تهاوت عني في لؤمٍ فظيع.. حتى إذا ما غدوت الى روحي وجدتني منساقاً الى الحياة الجديدة التي جعلت من روحي هائمةً وكأني أمام امتحان.. لتكون من بعدي سلالات من الخديعة.
لم يكن الشارع الذي يوصلني الى المقهى خالياً من القلق.. كلّ الوجوه المتذمرة الممتعضة لا تعبر إلّا عن لغة الكلام، حتى اذا ما طرحت الأسئلة، انبرت الأفواه لخوفها وانحنت لتقبل صورةً ظهر منها كفٌّ أبيضَ يتسربل فوقها يشماغ أخضر.. وحين أسأل أحدهم عن سرّ شكواه من جهةٍ وسرّ لهفته ليكون ضعيفاً.. لم يجد جواباً في حنجرته سوى خوفه من السماء، لأن اليدَ تمنحه البركة وعلي أن أسافر لصمتي.. ولم يجد غير اتهامي بالخديعة وأني لا أرى الصورة الصحيحة.. وحين رآني صديق أجمع أجوبة الناس الخائفين.. قال لي جملةً جعلتني أسارع الى صمتي لساعاتٍ قبل أن أسارع الى مبتغاي: لن تكون أنكيدو زمانك، لان كلكامش أقلّ قوة من هؤلاء الذين يستغلون السماء.. فلن تكون نداً له ولن تتمكن من الفوز في مصارعتك.. فأنت الخاسر.
تركت انكيدو ورحت أتابع الفرح الذي تعيشه المملكة.. كانوا يهتفون للآلهة. ويشربون نخب الولاء.. فيما كانت المشاعل تطيح بالظلام وتبعثره في زوايا حادةٍ يختفي بين ضلعيها عاشقان يمارسان القبل في وحشية فراشٍ من القش.. حتى إذا ما رأى ملك المدينة انكيدو صاح به أن يأتي لينازل كلكامش، الذي كان يتحرك بعنفوان من نصفه الذي ينتمي الى الآلهة.. فيتبختر عند كل بلاطةٍ داخل المعبد فيما كان الناس بين هاتفٍ لانكيدو ومؤيدٍ لكلكامش الذي بدأ في حركةٍ واضحةٍ إنه سينازله بعنفوان السماء وهي الكفيلة بالفوز على قوة الغابة..
كنت مشوهاً الى الحال الذي أوجدتني فيه تلك اللحظة التي أبحرت فيها الى المكان، متغافلاً عن الكلام والملابس والسكن والروح والعلاقات وفرق الحياة...أتابع ما تشابه بيننا ،وكأن كل هذا التطور في العقل والوصول الى لحظة الوحدانية ستجعل من العقل البشري له القدرة على الاحتكام الى الإنسان الفرد وليس الى ذوبانها في قوة الآخر.. هنا في حياتنا رمزٌ يسلب للعقل وهناك ضعفٌ وتسليمٌ لعقلٍ يراد له أن يكون خاملاً، وما يختلف هي الأسماء التي تأكل من لحم العقل ليبقى الفرد مأسوراً لما يراد له أن يكون، طائعاً لمآرب الآخرين الذين جعلوا من أنفسهم آلهةً أو رموزاً أو مناضلين أو خطباء أو رجال دين.. كل شيء يوحي إن الكاهن عنصرٌ فعالٌ في تنمية الإخماد العقلي، فهو لسان حال تلك القوة المخفية التي تتحرك مثل هلاميات تستغل السماء، التي لا أحد بإمكانه مناقشتها لأنها شيءٌ خارقٌ جعلت من كلكامش مثلا نصف إله ونصف رجل وجعلت من أنكيدو الوحش الذي يعيش في الغابة له سيقان تعادل قوة قطيع من الثيران والأسود.
كنت أرى سياراتٍ سود مظلّلةً،تتحرك باتجاه المنطقة وثمة عساكرٌ يقطعون الطرق فيما تكون الرقاب متيبّسة لتعرف من في داخلها..كنت أنظر الى تلك القوة التي تتمركز في الشارع وذلك الصمت المريب الذي يطوق أفواه الناس وهي تتمنى لو أن المسؤول نزل وسلم عليه والتقط معه الصور.. كنت أتساءل عن تلك الحالة المتناقضة بين المعارضة للسلطة والتوق الى الإقتراب منها.. لكن الإجابة دائما ما تبقى سابحةً في ظلها.
جلست بين المحتفلين بعيد تنصيب الملك،لأستمع الى الكلام،سمعت اثنين يتهامسان بخوفٍ ووجلٍ من أن كلكامش استغل الملك لكي يحقق بانتصاره فوزاً يحتاج إليه لإعادة الهيبة، ويخفّف من حدّة الكراهية المتزايدة له بين الناس.. تركتهما لأنتقل الى مكانٍ آخر لعلّي أرى بوضوحٍ حلبة الصراع وذاك التحدي الذي كان عليه انكيدو حين أبلغني أنه سيكون في مواجهة كلكامش ليثبت له أن السماء محايدةٌ في معناها ولن تكون أسيرة قوّة سلطانٍ أو فرد.. سمعت حواراً من فم امرأةٍ تهمس في أذن أمها، إنها تريد لأنكيدو الفوز لعله يخلصها من الرضوخ لرغبة كلكامش في فضّ البكارة فقد قربت ليلة زفافها.. نهرتها أمها وهي تشير لها بخوفٍ ظاهرٍ من أن هناك من يوصل الكلام وسيعاقبها أشدّ العقاب.ثم قالت لها: إنه منصورٌ من الآلهة وسيفوز على انكديو فلا تفرحي كثيراً وعليك أن تهيئي له القرابين.
في مقهى المدينة كنت استمع لحواراتِ متضاربةٍ ومتضادة.. تناهى لسمعي همس رجلٍ متوسط العمر، من أن المسؤول الذي مرّ بموكبه كان يستدين منه مصروفه حين كان يجوب أماكن العمل في غربته، لكنه الآن لا يستطيع حتى مقابلته فهو يتحدث بلغةٍ يريد إقناع الناس من أنها بأمرٍ من السماء، وان على الآخرين الطاعة وكان يرى علامةً كاذبةً في منتصف جبهته.. قال الرجل:أنا قرأت التأريخ فوجدت ان في كل عصر مثل هؤلاء الذين يستغلون الدين لصالحهم وهم ينتصرون ..ولكن خسارتهم مؤلمة.. كان كتاب ملحمة كلكامش بين يدي .. أحاول قراءة ما تيسر للرجل الذي ضحك وقال: من هناك بدأ الصراع والحكاية ولم تنتهِ بعد تفاصيل السماء؟ ثم زاد: إذا أردت محاكمة الواقع عليك محاكمة التأريخ لأنه صاحب الفتنة،وهو الذي يجعل السلطة والقوة هي صاحبة الانتصار النهائي لتبقى البشرية في داخل الصراع.
لم تهدأ حلبة الصراع، ظلّت في صراخ المناصرين والمبتهجين برؤية أنكيدو وكانوا.. كانت النساء أكثر ارتفاعاً في الأصوات وهن يبحثن عن نصرٍ لتستريح أوروك من ظلم كلكامش الذي كان يريد الإحتفال أمام الملك ليعيد له البهجة.. أشار لي أنكديو ان أسجل التفاصيل بروحٍ متفائلةٍ، وأن أرى من ينتصر في التحدي.. كنت أشاهد كلكامش وهو يخطو في الحلبة وكانت الأرض تهتز تحت قدميه وكانت جدران المعبد تضيق بذراعيه وهي ترتفع الى الأعلى لتبيان عضلاته القوية، حتى إذا ما دار الصراع، سقط أنكيدو أرضاً.. فيما كانت ثورة كلكامش تخيف كل الحاضرين في الحلبة.. حينها نهضت لأغادر مكاني وأسجل في دفتري الصغير:إن الخاسر دائما يلجأ الى المديح ليزيل عن وجهه تراب الهزيمة، ويبحث عن قولٍ ليعيد الصداقة، فالسلطة قوة مكانها في القصور التي تحرسها عيون تخاف النظر الى أعلى النوافذ.