لا أخالك نسيته، فسيلَ المكتوم، الذي وعدتني به. قلتُ لك ذلك: ومددتُ يدي أقلبٌ سعفاته القصيرات، أتمرأى منابته، وأتصفحُ قُلبَتَهُ، سعفةً إثر أخرى. أنت تعلمُ، كم حلُمتُ بأن تكون في بستاني نخلة مكتوم، كم تمنيت، لو أنك صاهرتني نخلاً أو أخذتُ منك حفنة من بذور القثاء، تلك التي ورثتها عن أبيك. كم وددت أن تعطيني فسيل المكتوم هذا مثلما أعطيتك فسيل القنطار، الذي أحببته. كنتَ شققت الترعة عميقة باتجاهه، وكنتُ شاهداً على غرسه، قبل عشرة اعوام. وكما لو أنك تبخسني حقي في محبّتك والقرب منك، قلتَ: لمّا يزل صغيراً، أخشى انْ لا تُفلح في غرسه، ويخيبُ أملي في رؤيته أخضرَ مثمرا. دعه السنة أو السنتين ريثما يبلغ رشده، هو لك، ما طلعت شمس وغربت. أوجدتني عنّده حياً، أم رأيتني رمساً في برية سيدنا، الحسن البصري، في الزبير. قلت لك: سامحك الله، وأطال في عمرك، سأنتظرُ، أنا أبن الانتظار، قرين المسافات. وانتظرت.
وكما لو أنها على سعفة لبنات نعش، مرت السنتين وجئتُك، كانت السماء تحمل نذرَها بغيم كثير، وكان النيروز لما يعيّد بعد، لكن التوت استعجل الربيع، فأنبت البرعم والبرعمين، ومثل طالب حاجة، ذليل وقفتُ بين يديك، وعلى باب مرضاتك، أحييك تحية مستعطٍ فقير، لم تعطني أذنك المعطوبة، وكما لو أنك تمنحني المسرات جميعها في كيس واحد، أخذت بيدي الى امّه، أم المكتوم، الذي أنبت الكثير من السعف فغلظ واستقوى، وكما لو أنك تستعطفُها وتسترضيها، قلت لي هيتَ لك. خذه، هو من نصيبك، وبين مصدِّقٍ ومكذِّبٍ، وجدتني أعانقك، لا أعلم ما إذا شعرتَ بحُرقِ دموع فرحي على كتفك أم لا. ولا أكاد أفلت يدي من يدك، أخذتُ المنجل، أقطُّ ما التف حوله من السعف، وأكشفُ بالمسحاة ما كنتَ أهلتَ عليه من التراب، ولما تبدّت لي فطّامته، وصار عُريانا، فرداً، مستوحداً بين خلانه ، منزوعا من السعف والتراب والليف اخذت الهيب المسنون، المقطوط، الصلت وضربت أصله، لم أحدث جرحاً في بدن أمه، لا والله، سلم الجسدُ الأمُّ وسلم الجسدُ الفسيل. أسمعتَ لحظة فصاله وفطامه؟ انا سمعتها، أسمعت لحظة سروي به، أنا سمعته أيضاً. ومثل أبٍ، فرحٍ بمولود ذكر، حملته بين ذراعيَّ. كان فرحي به لا يسعني.
من صهريج يبتزني بالنقود صاحبُه أخذت له الماء الحلو له، وسقيته، بعد ما صار ماء النهر ملحاً، أجاجاً، ولكي لا يغلبني مَنْ يشكُّ بإيماني، أخذتُ من تراب ضريح السيد الغريب إلى ترابه، وقرأت المعوذتين وياسين، ومن بائع قرب الأسد البابلي، بالعشار حملت له الطعوم والأدوية واللفافات. ومثل طفل لا يقوى على فراق أبويه، قضيتُ النهار والنهارين عند باحته، حيث ينتصب صغيراً، ملفوفا، حيث غرسته. ولما كانت الشمس عامودية على رأسه قمّطته بالسعف والخيش والجنفاص، حمُلت له الظل، وفرشته أبغي البلل والرطوبة، وفي كل صباح باسم جميل، أفتق بأصبعيَّ فتقاً، بين خوصاته، أطلُّ منها عليه، كلُّ مُناي كانت أنْ أرى سعفة تخضرُّ بين سعفاته، التي راحت تذوي وتنحني وتجفُّ وتيبس. مَرِضَ ابني وأخذتهُ امُّه الى المشفى وتعافى، ومنذ أسبوع اندمل جرح أصبعي الذي أحدثه المنجل، كنت أجمع من الحلفاء قبضة ومن القصب أغنية لمسرات لا تجيء، لكنَّ فسيل المكتوم يأبى ان يكون نخلة، يعجز عن ردم هوة الحزن في روحي، وأنا بين أن أسألك ما إذا كنت غيرَ راضٍ، أو كان في نفسك شيءٌ منه، حيران متفكر، مهموم .آلمني أن لا يكون لي في بستاتي واحدة منه، أن لا أوفَّق في إنباته نخلة بين حشد الفسائل التي انبتها وأثمرت، أردتُ أن لا يقول عنّي الناس، بأني لم أحسن غرسه، لم أعتن به، لم أكُ محظوظا في غرس فسيل المكتوم التي أهديتنيه. مؤلم وموجع هذا لي.
حكاية فسيل المكتوم
[post-views]
نشر في: 19 يناير, 2016: 09:01 م