الجزء الأول
لم أكن أتوقع وأنا أحجز من خلال النت تذكرة الدخول لمتحف خروننغن، شمال هولندا، بأن الفنان ديفيد بووي (1947- 2016) سيتوفى قبل أيام قليلة من مشاهدتي للمعرض الذي أُقيم احتفاءً ،استثنائياً، به وبما قام به وجمعه طوال حياته، لهذا غلف زيارتي للمعرض بعض القلق والتوتر، والترقب والفضول أيضاً. دخلت المتحف وفي ذهني صورة ديفيد بووي، وهيئته التي تشبه نمرا يمشي على سطح من الكريم، لا تستطيع الإمساك به ووضعه في خانة معينة، هو الذي لا تتضح صورته وأنت تضيء مصباحاً واحداً لرؤيتها، بل تحتاج الى مصادر ضوء عديدة لتسلطها على كل جوانبه وانجازاته وابتكاراته التي لا تتوقف عند حدود معينة، عندها تعرف عظمة وفتنة وحضور هذا الرجل وقوة الضوء الذي تركه وراءه والنوافذ التي فتحها مشرعة أمامنا لنطل على عوالمه الساحرة والغريبة والنادرة.
لقد فوجئت بشكل غير متوقع وأنا أجوب ممرات وقاعات المتحف بمعرض استثنائي سيطر على كل حواسي ورغبتي في التطلع الى هذا السحر النابع من فنان بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، هذا الآرتست الحقيقي، أبن لندن البسيط الذي تحول الى أسطورة لا يمحوها الزمن. هنا في هذا المعرض أتطلع الى عالم بووي الذي عُرف بأنه أثَّر كثيراً على موسيقى البوب من خلال موهبته الفذة وظهوره الذي اختلف عن الجميع وأخذ أشكالاً متعددة. كان بووي استثنائياً وهو يجمع جوانب متباعدة وفنونا عديدة ليقدمها كلها بطريقة تنتمي اليه وحده، لهذا أطلق عليه البعض لقب الحرباء، حيث يلوّن نفسه دائماً بلون وتأثير مختلف حسب ما تتطلبه موسيقاه ويقتضيه ظهوره.
الكثيرون يعرفون بووي كموسيقي ومغني بوب اقترب بأهميته من البيتلز ورولنغ ستونز، لكن مالا يعرفه العامة هو تأثيره الكبير والصاعق على صورة عصرنا وانحيازه لشكل جديد لمغني البوب يعتمد على اللون والملابس الغريبة والضوء والمكياج والأقنعة وكسر الكثير من المحرمات التي تخص الشكل. أبدأ بالمعرض وأضع سماعتين صغيرتين في اذنيَّ لتأتيني موسيقى بووي بشكل تلقائي ويناسب تاريخ كل زاوية من زوايا المعرض ومحتوياته، حيث تواجهني هنا بدلته الشهيرة التي استوحاها من الفن الياباني بخطوطها الغرافيكية البيضاء التي تلتف على خلفية سوداء، ليغمرك بعدها عالم بووي الغرائبي وتكتشف تأثيره الكبير على الموسيقى والفن بشكل عام. أسترسل في أجواء المعرض وأنا أشاهد أكثر من مئة بدلة غريبة اللون والتصميم، كان قد استعملها في أغانيه، وقد قام بتلوين قسم منها بشكل مباشر بعد الانتهاء من خياطتها. وقد توزعت بينها، مجموعة من التصاميم التي صممها بنفسه لبعض هذه الأزياء، وكذلك النوتات الموسيقية التي كتبها وبعض الرسائل والكتابات والتصاميم الجميلة التي ابتدعها لأغلفة ألبوماته الغنائية وبعض أحذيته وأيضاً مجموعة من اللوحات التي رسمها لنفسه وللآخرين بطريقة فيها الكثير من الرمزية.
أهمية هذا المعرض برأيي الشخصي هو أنه يسلط الضوء على الأشياء والتفاصيل التي تأثر بها بووي واستوحى منها موسيقاه وأثرّت على طريقة تفكيره وعروضه. فالأقنعة والمكياج والبانتومايم ومسرح الكابوكي( الياباني) وحتى الروايات والرسم وتصميم الأزياء والسينما وملصقات الأفلام وغيرها الكثير، كانت مصادره الأساسية، ولها تأثيرات حاسمة في حياته وفنه وموسيقاه. كان يكفيه عنوان معين على غلاف كتاب عابر ليثير لديه فكرة جديدة، هو الذي لا يتوقف عن البحث عن صيغ وأشكال مختلفة يظهر من خلالها الموسيقى وباقي الفنون التي يبتدعها. أنسجمُ مع معروضات المعرض الذي صُمِّمَت أجنحته بطريقة تليق بعظمة بووي، وأشق طريقي بصعوبة بين حشود الناس الذين ملأوا المتحف، وأنا أفكر بفنان كان يملأ الأرض بحضوره وهو يضع فوق ملامحه أقنعة متعددة. لكنه قبل أيام معدودة وضع قناعه الأخير على وجهه ورحل الى الأبد.
يتبع
رجل بمئة وجه
[post-views]
نشر في: 22 يناير, 2016: 09:01 م