في دفتر أيامك، أقرأتني: بانَّك كنت حزينا ما فيه الكفاية لا، بل أنَّ حياتك باتت شائهة وبلا معنى. ذلك لأن دائرة الزراعة لم تمنع بيوع البساتين في الفاو والتنومة وابي الخصيب . وأنَّ سماسرة الأرض أشركوا موظفي دائرة العقار والبلدية في نهب السجلات وحرق الحجج والفرمانات ..وأنهم استبدلوا، وبالحبر الأبيض والاسود أسماء المالكين والفلاحين والتعابة، وبأجهزة النسخ الحديثة تغيرت الأملاك وأمّحت البيوت وضاعت الأديرة والسكك والمفازات. ومن خرائط البساتين الأموية العباسية والعثمانية أزيلت الازمنة والتواريخ والضياع والاقطاعيات، فاختفت الأنهارواستقامت وسويت مثلما أرادوها الدروب. كانت تلتف عند كل نخلة ونهر، وتنفرج عند كل نخلة ونهر آخر، لا يمسها أحدٌ بسوء.. وتحيد عنها مركبات الشرطة والناس والجنود. لقد عبث هؤلاء اللصوص بشرائع وسنن أمين عالي باش أعيان، وما تقرأهُ عليَّ الآنَ لم يعد قائماً، هو في كتب القاضي، الأنصاري، أحمد نور الدين. وعند سليمان فيضي في بصرته العظمى. أما ما ظل منها فهو قليل، أو لا وجود له إلا في خطط الشيخ عبد القادر، حسب.
ولكأنك ما خرجت من دارك، كأنكَ سافُ الطابوق الأخير في حائط المسجد القديم، ذاك الذي يميل على النهر ولا يسقط. رحت تتلو علي ما تدون وتكتب. أقول لك بأن الطريق إلى العشار ازدحمت أكثر بسيارات الحمل وخبّاطات الإسمنت. وإنني ما عدت أرى الخيول تذهب بطقطقات عرباتها الى السوق .. ما عدت أرى أقفاص الرطب والعنب وزنابيل الخضار وباقات الآس والزهر، في باصات الخشب، حتى..لا أحد يبيع مثل ذلك اليوم.
أنت المفجوعُ بحصان رؤاك، وأنا مكدودٌ، أنوءُ بجرِّ عربةِ أخيلتي، رحنا نقلبُ حجارة الأمل، نبحثُ في الشطوط والمسنّايات عن قدور النحاس، التي سرقها المدُّ من بين أيدي امهاتنا .. قططٌ كثيرةٌ وقفت امام قفص روحينا ونهشت بلبلنا الوحيد. قد لا تكون صورة جري الخيول التي توقفّتَ عنّدها سبباً لدموعك، مِظنَّة حزنك وفجيعتك، وقد لا يكون مشهد ضياع القدور وانسحابها مع المد خارج الشط الكبير. ما جرى لنا يا صاحبي، أبعد من مشهد شعري كهذا. ها، أنت تبكي ما لم يبكه أحد من قبل. وها أنا واجمٌ، محرور، مقرور، أتبعُ خيط دموعك حتى إذا لامس الأرض، صحت بك، يا أخي. أيها المفرد بين الأنهار، الوحيد في النخل. تعال.
أكانت الصورة وحيدة، غريبة في البوم الصور الكثيرة ،أكنتَ، أنت عربة الأخيلة الأخيرة، تتفادي الشجرة هذه، وتشتبكُ مع تلك، تنحدر اسفل الجسر، ثم تصعد خاصرة النهر العميقة. أكنت خسران الأمكنة وضياع الوقت؟ تقول : لا، هي: عربةٌ مجبولةٌ من الخضرة والشموس والطقطقات. هي سرب فواخت مضى وانا بانتظار عودته وقد حان وقت الغروب!! قلتَ ذلك ونمت. صورة كهذه تتجاوز حدود ماكنة الزيت، وكتلة الحديد والميكانيكا إلى ما هو عميق وأبدي في الروح، مع يقينك ويقيني بالحاجة لها، مع إقرارنا بقدرتها على اقتحام حياتنا، وفي اي مكان نكون، في أي زمان، وحيث ستدركنا ذات يوم .
وعبر رسائلك الكثيرة، سألتني، وأنت في بحر تذكرك عن السلاحف والثعابين والضفادع والقنافذ والسناجب وبنات آوى، تلك التي كانت تعبر الطريق، في الفجر والمساءات الباردة، خارجة من أنهار وجداول البستان هذا إلى ذاك، على الطريق الطويلة، ذات الألف انحناءة وانحناءة، التي توصل البصرة القديمة بأبي الخصيب، والعشار بالزبير وسفوان وأم قصر.. في المشهد الذي كان مألوفا لنا ذات يوم، في الرحلة العجيبة التي ابتدأت منذ مئات السنين، حيث ستكون الصعوبة بالغة في اقتفاء أثر الكائنات الوديعة هذه.
في اقتفاءِ عربةِ الأخيلة
[post-views]
نشر في: 23 يناير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...