TOP

جريدة المدى > عام > كتاب البصرة.. فوتوغرافيا الزوال والحضور

كتاب البصرة.. فوتوغرافيا الزوال والحضور

نشر في: 25 يناير, 2016: 12:01 ص

وضعنا الفنان احمد محمود في " كتاب البصرة " أمام تنوعات اليومي والمألوف . اللحظات المهزوزة بين حضور الموت وغياب الحياة المؤقت والصراع بين الاثنين . لحظات يومي مغامر للإمساك بحياته هو ، لكنه يرنو للآخر وسط زمن لا يعرف المفاضلة بين كائن وآخر . انها لعبة

وضعنا الفنان احمد محمود في " كتاب البصرة " أمام تنوعات اليومي والمألوف . اللحظات المهزوزة بين حضور الموت وغياب الحياة المؤقت والصراع بين الاثنين . لحظات يومي مغامر للإمساك بحياته هو ، لكنه يرنو للآخر وسط زمن لا يعرف المفاضلة بين كائن وآخر . انها لعبة الموت . لعبة زمنها لحظي ، خاطف ، وسريع كالبرق ، من تراه لا تظنه غاب سريعاً وتحول مروية لزمن محدود ، وانتهى كل شيء وتم الإقفال على كل ما له علاقة به وبكينونته.

هي لعبة الموجود وسط وجود قلق ، مثير للفزع والخوف . حتى غدت آنذاك حقيقة الكائن ، كوجود قائم ، مماثلة لتحولات الظل السريعة . وصار مرور الإنسان الحياتي ناعماً ، رهيفاً مثل خيط ، يقطع سريعاً وفي لحظة غير متوقعة ، وينتج بمفاجأته صدمة قوية ، تتوالد حكاياتها المرتبطة بالغائب وسط فضاء الحرب ، المفتوح على مداه ، وهو يختبر ارادات الناس من اجل البقاء ، الاستمرار والديمومة . وهذا الموجود المحكوم بزمن ، لا يستطيع الإنسان الاحتكام له والتعامل وإياه بوصفه ضابطاً لنوع من الانسجام بين الناس وعلاقاتهم العامة وأيضا الخاصة.
حتى المكان ، محكوم هو الآخر بالصدمة التي تتركه على حالته ، أو تعيد تشكيله من خلال تدميره كله ، أو قضم أجزاء منه ، وتترك الباقي المتمركز في محيط محدد ومنفتح الى حيث يرى الكائن . لكن الجزء المقضوم لا يومئ لذاته فقط ، وإنما يشير للكل . وأكثر ما يتضح هذا في المدينة الآن الحروب المتوحشة تركض بسرديات وراء المدينة كجغرافية كبرى ، وأيضا لا تنسى مطاردة أطرافها ، من اجل أعادة تشكيلها ورسم حدود مختلفة وجديدة . ما كان مفتوحاً وصار مغلقاً على ما كان ماثلاً .
باستمرار الحرب وحكاياتها ، تبرز متخيلات ، تتنازع عليها المشاهد واليوميات ، وتقضي على غيرها من أوهام وابتكارات كثيرة ، جميلة ، وأحلام قبيحة ، وسوداء مثل الذي خلفته الوقائع اللحظية ، الخاطفة للحرب .
استطاع  احمد محمود بعين حساسة وحذرة ، قلقلة ، أن يعيد إنتاج الجزء ويفتح كليته السردية من خلال عدسته ، التي منحته فرصة اللعب ، لذا استطيع القول بأن هذا الفنان هو "ألعبان" ، عارف آلية الحركة ، ورصد ما يريد التقاطه ، والإمساك به . وعرضه علينا كحكاية عن كائن ومحيطه ، مثل هذه الحكاية امتلكت طاقة تجددها في حياة المدينة وهوامشها . الحرب لا فوارق فيها بين المدينة كمركز والهامش . أنها طاردة للحياة والحركة وهذه هي اللعبة التي ذهب إليها احمد محمود ، والتقط أحلام الأفراد والجماعات ، عبر شخص واحد ، الجميع متماثل في مرويات الهلع والوهم والفزع والهروب، من قبضة الموت ، التي تتسع في أحيان كثيرة ، وتصير بحجم المدينة ، كما يتخيلها الفنان الفوتوغرافي في اللحظة التي يضغط فيها نابض كاميراته ، ومثل تلك اللحظة هي الحاضرة ، لأنها أكثر صدقاً في تعاملها مع موضوعات اليومي وحقائق المشهد .
اختزلت فوتوغرافيات احمد محمود المدينة عبر مشهد صلب ، متوتر وبعنف ... وكأنه تمظهر لي ـ على الأقل ـ وهو يطارد وهماً وحلماً في آن وهذا ما أريد التأكيد عليه في هذه التجربة الملتفة بقوة حول بلاغتها ... وشعريتها ... هذا هو التضاد الكامن في " كتاب البصرة " وحتى في فضاء المدينة تضادات ، لم يتستر عليها الفنان ، وقدمها مرات مجالاً مضاداً للآخر ، من خلال رموز وعلامات دالة عليه ... هو يلاحق المرئي ، ويخطف الهارب ، ويسجل مكاتبيه بواسطة التماع العدسة .
الملاحظة الأخرى المهمة عن هذه التجربة المهمة هي الهوة الكامنة ، في زمن الصورة وفي روايتها من قبل احمد محمود ، مرة ثانية ، لكنها بآلية مغايرة عن لحظة القول الأولى . انه يستدعي زمناً مثل الوهم الهارب ،لأن الواقعة  لم تترك غير ملامح الحرب ولم يمسك إلا بالبقايا والصدأ وهذا هو حصة الحاضر / الزمن المتحرك وحده الذي منح الحرب بقاياها الكامنة في ذاكرة الجماعة وجعلها فوضى ماثلة.
الفنان سجلها وأعلن حضور الغياب ، فلا تواصل أو تبادل ، بين كائناته في الفوتوغرافيات وكأنها هاربة وسط خارطة لا يعرفها الإنسان المفزوع ، الغائب . ولم يستطع احمد من إعلان واضح عن وجود علاقة ظاهرة بين الأنا والآخر ، وان حضرت فأنها ليست عميقة ، بل سائبة ، يهيمن عليها العزل والقطيعة ، لا احد يواجه الكاميرا ، ويحدق بعدستها ، هي فقط الملاحقة للأفراد ، المتحركين نحو مجهول ، غير معروف ، حركة وحدت بين اشارات على تاريخ سابق وأخر حاضر ، لذا تسيدت ظاهرة الأمان وسط أجساد حديدية ، كل ما أبقته الحرب بعد الانطفاء .
تضعنا فوتوغرافيات البصرة وجهاً لوجه مع مكان كوزموبليتي ، يطل على العالم ومفتوح عليه ، كله نافذة ، والأماكن في الكتاب نافذة ، تفضي وغير مغلقة ، أو مسدودة مؤقتاً . هل كان الفنان يعرف بأن الأماكن البصرية هكذا ؟ صحيح هي تعلن عن عطل واضح ، تقدمه كاميرا الفنان مصوراً من زاوية وأحيانا بمدخل فضاء واسع ، هذا ما رسمته الصورة ولأن الرؤية الفنية تنفتح أكثر على العلاقة المتكونة بين الكائن والوجود ، حتى يعلن الفنان عن استمرار إرادة البقاء والعيش ، وسط أكثر الظروف تعقيداً وصعوبة ، وعلى سبيل المثال يرى الإنسان وهو في مكانه ضعف حركة الأفراد في مكان ما دال على الحياة ، وتنشط كثيراً وسط مكان ضاج بالدمار والموت ، أنها الحرب التي تركت وهماً بديلاً للإنسان عبر الأبدان البلاستيكية التي قالت لنا بأن الدمار جاء زاحفاً على الإنسان ولأن وجوده حيوي وضروري ، اقترح نوعاً مشابهاً ، هو الإنسان البلاستيكي . وحتى هذا الكائن المزور ، المشوه ، خضع لهيمنة السلطة وخطابها المتسلط وربط الكائن الكاذب بالحبل الى عمود في الشارع ... وأيضا ضاعت منه يده اليمنى ... هذا الجسد يعلن بشكل مبطن عن وجود واستمرار التزويرات في كل شيء بالحياة ، ولم تتوقف ، أو تخجل من تشويه الإنسان ، لأن في زمن الحروب كل شيء ممكن ومسموح به ، فما دام الإنسان مستهدفا ، فما هو الذي يمنع تزوير أشكال صناعية تدعي شبهاً بالكائن ، رجلاً أو امرأة أو أطفالاً ؟.
رؤية شعرية في مواجهة الحرب ، لكن الغياب المتسع ، مثل الهشيم ينوش الأطفال والرجال والنساء ، اللاتي دخلن الحياة بشيخوخة حادة التقاسيم ، لكنها شفافة الروح ، على الرغم من هيمنة السواد عليها . الرسائل كثيرة في " كتاب البصرة " وأكثرها قسوة هم الأطفال بأجساد بلاستيكية وملابس ملونة ... الجسد إعلان عن وجود الحرب واستمرارها ، لأنها استدعت بديلاً لها ، وتضادها حاضر بقوة ، من خلال ألوان ملابس الأطفال الزاهية . ظلت رسالة الحياة واختفت رسائل الحرب ، لكنها ظلت في الذاكرة . " وكتاب البصرة " نافذة على ذلك الجمال . واستمرار الحضور الديونيسيسي وإعلانه عن صعود المدمر مرة أخرى ... خلاق متجدد .... هذا الكائن ، جديد تماماً لأنه خاضع للسيرورة وأسرعها تلك التي تنشأ زمن الحروب لكنها بطيئة . الرؤية النيتشوية حاضرة في تصورات احمد محمود ، هذه التصورات المضطربة ، والمشوشة ، والمدمرة . لكنها معاً متحركة من اجل استعادة كل شيء في زمن الحرب ، يعلن عن تدمير ذاته ، لكنه ـ الشيء ـ يعاود تكونه ثانية ويعلن عن حضور احتجاجي ، وهذا هو الجوهري في تصورات الفنان احمد محمود .
ومن الرسائل المبثوثة في تفاصيل " الكتاب البصرة " بطولة المكان ، المتمثلة باستمرار علاقته مع الإنسان الحقيقي أو المزور . وايضا تأكيد أو ما يشبه ذلك من أن الطبيعة ، حتى في تدميراتها ، لا تكف عن صفتها الاحيائية وكل فوتوغرافيات البصرة تقاسمت تضاداً قوياً ومرموزاً له في بعض المشاهد ... انها ثنائية الموت والحياة . والاعتناء بالعرضي / المهمل ، المتوتر بشفرات الإرسال والشذرات الملتمعة . حيث تحولات الطبيعة عبر أشيائها واستمرار حضور الأمل فيها . وأخيراً تمظهرت لي ذاكرة البصرة عن مقولة ماركس عن دمار اسيا وصعودها حية وقوية مرة جديدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة
عام

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة

حاوره/ القسم الثقافيولد المترجم عباس المفرجي بمنطقة العباسية في كرادة مريم في بغداد، والتي اكمل فيها دراسته الأولية فيها، ثم درس الاقتصاد في جامعة الموصل، نشر مقالاته في جرية الجمهورية، ومجلة الف باء، قبل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram