TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أصابعُ الفلسفة على الوترِ الموسيقي

أصابعُ الفلسفة على الوترِ الموسيقي

نشر في: 24 يناير, 2016: 09:01 م

كيف تُقبل ريح الفلسفة على رأس الموسيقي؟ هناك عيناتٌ نادرة من الفلاسفة الذين منحوا الموسيقيين هذه الفرصة. أبرزُ من فيهم هو شوبنهاور ونيتشه الألمانيان. وإذا انفردت رياحُ شوبنهاور بالموسيقي ﭬاكنر، فإن رياح نيتشة اتسعت لأكثر من موسيقي. كان من أبرزهم: ريتشارد شتراوس في عمله "هكذا تكلم زرادشت"، ومالر في سيمفونيته الثالثة، وديليوس في "قداس للحياة". وعادة ما يُضاف شوينبيرك، ولكن لا لعمل محدد، بل لتوجه رادكالي، يشبه توجّه نيتشه، في تحطيم نظام الهارموني الذي امتد ثمانية قرون قبله. إنه يُذكر بمجنون نيتشه في كتابه "العلم الفرِح"، حينما يتساءل: "من منحنا اسفنجة لمسح معالم الأفق؟ ما الذي سنفعل حين نُطلق هذه الأرض من أسار الشمس؟"عملُ شتراوس المستوحى من "هكذا تكلم زرادشت" ينتسب إلى فن "القصيدة السيمفونية"، التي تعتمد "برنامجاً" حكائياً، لا "شكل" السوناتا المجرد، كما هو شأن الفن السيمفوني. وضعه عام 1896، ووزعه، شأنه شأن كتاب نيتشه، على تسعة فصول، تمتد قرابة نصف ساعة. ويعترفُ شتراوس بأنه لم يسعَ إلى تأليف عمل موسيقي فلسفي، ولكنه استجاب إلى الطاقة الغنائية في نص نيتشة الأدبي. وهذا الأمر يشمل الموسيقيين الآخرين، الذين جئنا على ذكرهم. ولقد اكتسب عمل شتراوس سمعةً واسعةً على أثر توظيفه من قبل المخرج كوبريك في فيلمه الشهير "2001، أوديسة الفضاء".
السيمفونيةُ الثالثة، لمالر، 1896، استجابة للنص الشعري أيضاً، ولقد استخدم المؤلفُ قصيدةً منه في الحركة الرابعة: " خذْ الحذرَ، يا ابن آدم!/ ما الذي يقوله منتصفُ الليل العميق؟/ ’لقد نمتُ، واستيقظت من حلم عميق:/ عميق هو العالم،/ أعمق مما اعتقدَ اليومُ العابر./ عميقٌ ألمُه./ ولكن الفرحَ أكثرُ عمقاً من وجع القلب./ يقول الألمُ: اقطع الشوط!/ لأن كلَّ فرحٍ يسعى إلى الأبدية،/ إلى أبدية عميقة، عميقة."الموسيقي الانكليزي فريدريك ديليوس أنجز عمله "قداس للحياة" عام 1902. وهو عمل كورالي مستوحى من قصائد متفرقة من "هكذا تكلم زرادشت". ولكن الذي بدا لي أكثرهن تأثيراً هو عملٌ متأخرٌ للموسيقي الدنماركي Vagn Holmboe (1909-1996)، بعنوان "قداس جنائزي لنيتشه". هذا القداس وضعه المؤلف عام 1964 لطبقة الصوت الرجالية الوسطى (الباريتون)، وللطبقةِ الصدّاحة (التينور)، إلى جانب الكورس مع الاوركسترا. والنصُّ المُعتَمد سونيتاتٌ شعرية كتبها الشاعر الدنماركي بيورنفج.هنا تتدفق أفكارُ وحياة نيتشه، عبر تأويلات الموسيقي الرمزية لما عُرف عن نيتشه من توقعاتٍ واستلهاماتٍ وكشوفات تمر عبر أتون معتركِه الداخلي، حتى ساعة انهياره التراجيدي المبكر. الموسيقى تتابعُ النصَّ الشعري بألحانٍ من موسيقى الأوركسترا وأصواتِ المغني المنفرد. ففي مُفتتح الجزء الأول نُطلُّ على مشهد لحني وشعري لصحراء: "يخطو فيها المسيحُ داخلَ البرية، شاباً متطلعاً لمواجهة الرب. وعلى ضوء القمر يرتقي أعلى الجبل، وقد استشْعرَ الوحدةَ والهجران". بعده يدخل الكورسُ بلحنٍ يحاول صوتُ الباريتون أن يعيدَه، ولكنْ بإيقاعٍ أسرع وبلهجةٍ تأملية:" أيتها الغدران، أيتها العواصمُ الرائعة، والعوالمُ المجيدة،/ المُبدَّدةُ في سرابِ الرمالِ المديدة./ هاهو ظلُّه يغادرُه، ويصبحا اثنين".
بعده نسمع صوتَ المسيح يتردد (أو ربما نيتشه، أو أي مبدع!):" إذا ما ستتعبّدني، فهذا كلُّ ما ستملكه"، وكأنه يعبر بهذا النداء عن كل التطلع (الفاوستي) باتجاه المعرفة.
تحت عنوان المدينة "بازِل"، التي قضى فيها نيتشه سنواتٍ عشرٍ محاضراً، تدخل موسيقى كوراليةٌ هامسةٌ، متكلمةٌ، ثم صارخةٌ في الفصل الثاني. الكورس هنا يمثل "السوق الضاجّ بالبائعين، وذُرى التلالِ الطوالِ، والليلِ الغيهبِ، والصبحِ المتعب"، الذي عرفناه لدى السياب في قصيدته "العودة لجيكور". ولكنه أيضا مسرحُ الفشل الانساني، والشكُّ الفلسفي الذي عبّأ كتاباتِ نيتشه جملةً. في هذه السنوات كان شديدَ الإعجاب بـﭬاكنر وموسيقاه، ولذلك نسمع أصداءً موسيقيةً من أوبرا "تريستان وأيزولده" تتردد هنا.في الفصل الثالث يغني صوتُ الباريتون بعنف رؤيا نيتشه:" رأى في ريح الفجر النردَ الذهبي...". وهي تشير إلى رؤيا الفرس رمز الحيوية الطبيعية، الذي عانقه نيتشه، والتي كانت المُعانقةُ آخرَ عهد نيتشه مع عقله السوي، عام 1889.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram