حين تقطع جذر شجرة او نبته، فإنّ تلك النبتة تموت، ولن يفيدها اي علاج او حل.ليس هذا اكتشافاً، بل هو حقيقة علمية، خَبرَها الفلاح البسيط قبل العالِم، لكنها تُصبح اكتشافا حين يستنبط منها منها فنان او مثقّف قراءة جديدة. وهذا ما فعل المخرج الايطالي ال
حين تقطع جذر شجرة او نبته، فإنّ تلك النبتة تموت، ولن يفيدها اي علاج او حل.
ليس هذا اكتشافاً، بل هو حقيقة علمية، خَبرَها الفلاح البسيط قبل العالِم، لكنها تُصبح اكتشافا حين يستنبط منها منها فنان او مثقّف قراءة جديدة. وهذا ما فعل المخرج الايطالي الكبير نانّي موريتّي في فيلمه الأخير «أمّي» الذي أدى بطولته هو نفسه إلى جانب مارغيريتا بوي وجونّي تورتورّو والنجمة المسرحية الكبيرة جوليا لاتزاريني.
كثير من النقَاد والمشاهدين توقّفوا عند سطح الحكاية في الفيلم دون الغوص في عمقها، وآخرون تذمّروا، وقالوا:
- «أوه، مرّة أخرى موريتّي وعائلته!!».
فبعد «أبريل» و «غرفة الإبن» هاهو نانّي يعود إلى كنف عائلته ليروي حكاية موت أمّه. ولأن والدة موريتّي كانت قد تُوفّيت بالفعل منذ وقت قصير، اندفع الجميع إلى اعتبار ما صنعه المخرج بمثابة مرثاة للراحلة، فتعاطفوا معه ووقفوا عند ذلك الحد، فيما كان الفيلم يستدعي التوقّف الأعمق. وبرغم أن لا وجود لأدنى شك بأن هذا الفيلم هو الأكثر شخصية والأثرى بالمشاعر من بين الافلام التي أنجزها ناني موريتّي حتى الآن، فهو في الواقع أكثر أفلامه تنبؤاً بالمصير الذي تواجهه ليس ايطاليا لوحدها، بل أوروبا بأسرها.
وكديدنه، في غالب افلامه السابقة، ينطلق موريتّي من نفسه، من عائلته ومحيطه. وبدل ان ان يقود اللعبة بنفسه كما فعل في غالب الأفلام الأخرى، فإنه يمنح قياد تحريك الحدث الى إحدى ممثّلاته المفضّلات، مارغيريتا بوي، التي تؤدي في الفيلم دور مخرجة سينمائية تحمل اسم ذات الممثلة، أي مارغيريتا، وهي شقيقة المهندس جوفاني، ويؤديه نانّي (جوفانّي) موريتّي نفسه باسمه الحقيقي، وبشفافية غير مُجتاحة لمساحة مارغيريتا في الفيلم.
يتعامل المهندس جوفانّي مع شقيقته الصغرى مارغيريتا بحبِّ وبصبرِ وأناة الأخ الأكبر الحقيقي، وبالذات لإدراكه بأنّ شقيقته تجتاز واحدة من أصعب وأعقد فترات حياتها وتمرّ في أزمة حقيقية، وهي نفس الأزمة الوجودية التي يُبرزها ناني موريتي في جميع أفلامه، فإن جوفانّي يتعامل مع مارغيريتا كأب رؤوم.
وكما استبق موريتي في فيلمه «أبريل» نهاية اليسار الإيطالي الضخم وتشظيه إلى مكوّنات صغيرة وغير فاعلة، وكما تنبأ في فيلمه السابق «لدينا حبرٌ أعظم»، بـحدث عُد من أندر الاحداث في التاريخ، أي استقالة البابا بينيديكتس السادس عشر بسنة ونيف من وقوعها بالفعل، فإنه يستبق في هذا الفيلم حدثاٌ او تطوّراً اكثر تراجيدية، يهابه جميع الاوروبيين، ويُنظّر له مفكّروها وفلاسفتها وستراتيجيّوها، لكنهم يُشيحون الطرف عنه خوفاً، في بعض المرّات، واستسلاماً للأمر الواقع في غالب الأحيان.
وذلك التطوّر التراجيدي هو موت اوروبا. وهو موت قد يحدث بسبب اندثار جذرها الاساسي الذي قامت عليه لقرون طويلة، أي جذرها الثقافي اللاتيني الذي فتحت عليه ليس مجرّد آفاق تطوّرها فحسب بل آفاق العالمية بسلبياتها الكولونيالية والامبريالية، وبإيجابياتها، كالتمدّد الحضاري والثقافي والفكري.
يضع موريتّي في فيلم «أمي» تحت سقف واحد ثلاثة اجيال:
الجدّة، أم جوفانّي ومارغيريتا، مدرِّسة اللغة اللاتينية المتقاعدة والمصابة بمرض يدفع قلبها صوب التباطؤ المتواتر، وإلى الموت المحتّم، ويتشكّل الجيل الثاني في الفيلم من وَلَديْ استاذة اللغة اللاتينية، المهندس جوفانّي، المتعب من الحياة والساعي الى الاعتزال، ومارغيريتا، المخرجة التي تصوّر فيلماً عن الازمة الاقتصادية الإيطالية والأوروبية، لكنها تعجز عن تحقيق ما تريد لأنها اضاعت رأس الخيط في الفيلم، خاصة بعد أن أجبرها منتجو الفيلم على إناطة البطولة إلى ممثل أمريكي، سيظهر لنا في الفيلم بأنه مجرّد «بهلوان» مزهو بنفسه دون أي مبرّر مقنع، يعيش على وهم خلقه هو بنفسه على أساس تلفيق عمله مع الراحل الكبير ستانلي كوبريك. ويؤدي هذا الدور ببراعة جميلة النجم الأمريكي، الإيطالي الأصول، جون تورتورّو. أما الجيل الثالث، تحت ذلك السقف فيتمثّل بالحفيدة «ليفيا»، إبنة مارغيريتا، الضائعة بين والدين منفصلين، لا يجدان الوقت الكافي الضروري لقضائه معها.
وعلى الرُغم من الألم والأسى الكبيرين الذي تُبرزه مارغيريتا لموت الأم، والبراغماتية والحب الذي يظهرهما جوفاني في التعامل مع هذا الفقد، ومحاولته التخفيف من آلام شقيقته، فأن الخاسر الأكبر والأعمق شعوراً بالخسارة من موت استاذة اللغة اللاتينية، هي الحفيدة ليفيا، التي كانت عثرت عبر لقاءاتها مع الجدة على ردود لتساؤلاتها حول «ضرورة» دراسة اللغة اللاتينية، والتي كانت تنفر منها وتسمّيها بـ «اللغة الغابرة»، وبدأت الاقتراب من تلك «اللغة - الثقافة». موت الجدّة يعني، بشكل من الأشكال، أنّ مستقبل هذا المجتمع، أي شبيبته، يفقد بشكل مفاجئ مرتكزات ما يُفترض أن يكون أساس جذوره. ويأتي بكاء «ليفيا» المخنوق في النهاية بمثابة انطفاءٍ لبريق الأمل الذي بدا لها في الأفق وكانت عثرت عليه بعد تردّد طويل عبر حواراتها الحميمة مع الجدّة.