تلقى العراقيون قرار تخفيض سعر الدولار أواخر ٢٠٠٣ بارتياح كبير، وهم يشهدون امتلاء جيوبهم، بالدينار الذي استعاد عافيته، إيذاناً بإغلاق صفحة جوع الحصار وقسوة أعوامه.
فبالتزامن مع إسقاط نظام صدام وفرار رموزه واختفاء ضباط اجهزته الامنية، كانت قاطرات البيبسي كولا، وبرادات الفواكه، التي نسينا شكلها حينها، تخترق حدودنا وتضع في بيوتنا أولى ثمرات الديمقراطية الوليدة. كان الستلايت أغلى بضائع ما بعد حقبة صدام، اذ بلغ سعره ٤٠٠ الف دينار، ورغم ذلك جازف الكثير من العراقيين لشرائه كي يكتشفوا ملامح العالم الذي عزلهم طيلة عقود من الزمن.
الخارج من خبز الحصار، بمواصفاته التي يعرفها العراقيون، لم يكن يزعج احلامه حينها بالتفكير عن سر هبوط سعر الدولار من 4 آلاف دينار للدولار الى ما بين 1170 – 1200 دينار منذ 2004.
لم يشغل العراقي، الخارج تواً من اُتون جمهورية الخوف، عقله بالتساؤل عن سر هذا الدينار الذي أصبح بقدرة قادرة "أقوى عملة" في المنطقة، كما ردد ذلك الكثير من مسؤولينا حينها.
ازددنا غرقا بعسل الدينار الديمقراطي، عندما إتخذت حكومات بريمر وما بعده، قرارات إرتجالية بزيادة الرواتب التي إرتفعت بما لا يقل عن عشر اضعاف خلال أقل من سنة بعد دخول الاميركان، وصولا الى 20 ضعفا في وقت لاحق.
بعد ذلك، زادت الحكومات "المنتخبة" الطين بلة، عندما حوّلت الدولة الى أكبر مصرف للاقراض، من سلفة المئة راتب، وليس انتهاءً بقروض الاسكان، فيما بلغت قروض المبادرة الزراعية 6 مليارات دولار. ولم تكن سياسة الاقراض وفقا لرؤية علمية تأخذ بنظر الاعتبار تأثيرات هذا السلوك على مستقبل الاقتصاد المحلي، فضلا عن أداء الجهاز البيروقراطي والاداري ذاته.
وخلال أعوام قليلة تحول العراقي الى شخصية استهلاكية من الطراز الغريب، وفاق حتى نظرائه الخليجيين، وذلك بتشجيع ودفع حكومي مقصود او غير مقصود.
بسبب التسهيلات المالية، والزيادة غير المدروسة للمرتبات، فقد تضخم حجم الجهاز الاداري من 750 ألف موظف قبل 2003، الى اكثر من 4 ملايين موظف ومتقاعد، ومثلهم من متقاضي الإعانات الاجتماعية، بما في ذلك إقليم كردستان طبعا.
وصل الحال بالدولة العراقية ما بعد 2003، بفضل تسييس الوظيفة العامة، الى انها باتت تدار بثلاثة أضعاف العدد الحقيقي الذي تحتاجه من الكوادر.
تصوروا معي حجم الاموال التي يتقاضاها 3 ملايين موظف كمرتبات ومخصصات، وما يستهلكون من سيارات ووقود ومكاتب لكي تستوعبهم. لن أتحدث عن تأثيرات هذا الكم الهائل على ترهل الاداء الوظيفي، وتأخر إنجاز المعاملات اليومية، وشيوع أنواع الابتزاز والرشوة التي استشرت وبلغت مستويات خطيرة وغير مسبوقة.
سكتنا كعراقيين على حجم الفساد المستشري في رأس هرم الدولة، لاننا نخاف على المرتبات المريحة التي تسمح لنا التمتع بتغيير موبايلاتنا وسياراتنا بشكل مستمر، وتفسح المجال للقيام بسفرة أو سفرتين خارج البلاد في السنة.
لم يعد العراقي منتجاً ولا خلاّقا، وهو الذي إعتمد على ذاته في أحلك أيام الحصار وتدبّر أموره بشكل مسؤول. لم يقتصر الأمر على الحياة الخاصة، فحتى الدولة حينها كانت تعتمد على مواردها الشحيحة لتمشية أمورها، فانتظمت البطاقة التموينية، وتحسنت منظومة الكهرباء، وحتى شوارع مدننا كانت أنظف منها في زمن الموازنات الانفجارية.
لقد دفعت رغبة العراقي بالتعويض عن حرمان ايام الحصار، الى السكوت عن محاولة رشوته، طيلة الاعوام الماضية، بفتات ثرواته، فيما تستأثر طبقة سياسية فاسدة عديمة الفائدة بالجزء الاكبر من أموال النفط وخيراته.
الآن نواجه كشعب ودولة لحظة الحقيقة بعد انكشاف كذبة "الدينار الديمقراطي"، التي مررها بريمر وواصلها من جاء من بعده، وسكتنا عنها بفعل إغراءات سيارات 4X4، واجهزة التكييف الحديثة، وشاشات الـHD، والسمارت فون، والديلفيري فود.
الآن الدولة مجبرة على التخلص من ثلاث ملايين موظف خلال الاعوام المقبلة، وعلى الموظف الذي رضي بالغنم، أيام العز وأكل الوز، القبول بالغرِم ودفع ثمن تواطئه مع دولة الفساد والترهل.
الدينار الديمقراطي وأخوه الصدامي
[post-views]
نشر في: 27 يناير, 2016: 09:01 م