Iموضوع الغموض في الشعر، موضوع شاغل يهم كتّاب الشعر ودارسيه. وان شعراء مهمين يعانون من هذا الاشكال ويريحهم ان يتحدث دارس "علمي" فيه. وهنا نواجه شِقّين للمسألة : الاول. الناس الذين لا يقرأون الشعر وغير المهتمين به. اولاء حين يقرأون شعراً، لن يفهموه وان
I
موضوع الغموض في الشعر، موضوع شاغل يهم كتّاب الشعر ودارسيه. وان شعراء مهمين يعانون من هذا الاشكال ويريحهم ان يتحدث دارس "علمي" فيه. وهنا نواجه شِقّين للمسألة : الاول. الناس الذين لا يقرأون الشعر وغير المهتمين به. اولاء حين يقرأون شعراً، لن يفهموه وان ارتاحوا للحكمة او لبعض الغزل أو النقد الاجتماعي فيه. وحتى الان نحن بعيدون عن جوهر الشعر فناً يمتاز بقدرة كشف وصياغة اسلوبية خاصة. هم هنا لا يغمِض عليهم الشعر الحديث وحده ولكن كل الشعر من المعلقات الى السياب والبياتي الى اليوم.
هم يشبهونني انا حين لا اعرف ولا افهم كيف تعمل الماكنة، وان عرفت اسماء اجزائها. ويقودني هذا للتمادي اكثر فاقول، اولاء قد لايفهمون موبي ديك أيضاً ولا يفهمون اسخيلوس واعماله واظن "الزمن الضائع" ستكون متاهة لهم او مجرد كومة من الالفاظ والاوصاف. هم يمكن ان يفهموا قصصا مثل " المياسة والمقداد" او "شجرة الدر" فهذا هو المستوى الشعبي العام.
وحين نصل الى الشعر وقرائه، نرجئ أولاء البعيدين في حياتهم وقراءاتهم عن الشعر لنقصر حديثنا على المتأدبين والمثقفين ثقافة فنية او لغوية. وهنا ستتفرع المسألة مرة أخرى. فستبرز قضية أخرى توائم الغموض وهي الصعوبة. "فالشعر صعب" عبارة تلي دائما او تصحب "الشعر غامض". وما يجمع العبارتين في مشترك واحد هو انه شعر لا يُقرَأ برضا أو بامتاع. وهذا يعني خسارة قرّاء. نعلم في علوم اللغة، ان هناك عادات لغوية habbits وتعلُّمُها يعني تعلم الكلام. وهذه العادات تأتي بالتكرار حتى تثبت. هذه العادات اللغوية أساس تعلم اللغة وأساس فهمها. أُلفة الشعر وإدامة قراءته، كذلك تصنع عادات قرائية واعتيادا على الصياغات والانماط. أيضا تجعل هذا القارئ يألف اللغة الاستعارية في مرحلة تالية. والثقافة بمداها الفكري تساعد على ادراك الافق الشعري للقصيدة، كلاً أو مقاطع منها، كما المعنى او الجو العام.
من هذا ندرك ان مسألة كبيرة، ليست فارغة، تفصل القارئ العادي عن فهم الشعر، بل عن قراءته شعراً! وهنا نظل ايضا بعيدين عن حقيقة اخرى كبيرة، هي التحولات الاجتماعية وتطور الحياة والانشغالات الجديدة. فانسان العصر ما ابتعد عن الشعر وحده ولكنه ابتعد عن الجامع والكنيسة والكثير من الاعراف الاجتماعية. امور جديدة شاغلة حلت بدائل. هو لم يبقَ عاطلاً ينتظر. أيضاً ثمة ما يفيده عملياً من قراءات.
هذا يجعل من الصعوبة تحديد سبب واحد بين حشد من الاسباب. فلو اعتدنا على قراءة الشعر وكانت لنا شاغلاً قرائياً، لأخذت مسألة الغموض منحى آخر. سنقصره حينذاك على لغة النص أو على تقاطع الدلالات.
وما دمنا وصلنا الى تقاطع الدلالات، وهذا يعني ضمنا لغة الشعر، فسننتقل الى المستويات العقلية للفهم- هذا إذا انتهينا من حقيقة اكتمال الصياغة وجدية العمل. هنا تقع الالياذة وشكسبير كما المعلقات وشعر ابي تمام وبعض شعر اليوم ضمن الحاجة الى تعدد التفاسير او تعدد الفهم او قل اختلاف القراءات. سمها الآن الغموض وربما الصعوبة.
الاستاذ وليم امبسون William Embson في "سبعة انماط من الغموض" Seven Types of Ambiguity، انشغل بمسألة "الصوت والصرف والجو العام وتعدد معاني المفردة والاستطرادات والجمع بين المتضادات لمهمة ادائية واحدة وحالات الذهن المرتبكة او المعقدة وعائدية المفردة نحوياً وفكرياً" وصار يشتغل عليها. كما هو واضح ثمة مسؤولية واسباب رئيسة تعزى الى الشاعر او الى النص. تحليل القصيدة بعلمية كافية لا يترك مجالا للتنصل من التبعة. بعض النصوص متناقضة في داخلها واجوائها. هي ظلت معوزة الى قدرة شعرية لتصفو. الاستعمال العشوائي للكلمات، ادانة أخرى يجب الاقرار بها. الشاعر المتريث ينجو من الفوضى. هو يخلص من شوائب الارباك وتبقى المسؤولية مسؤولية قراءة صحيحة لا كتابة خاطئة.
اذن نعود الى تعدد مستويات المعنى. "ماثيو ارنولد" شاعر ودارس محترم. وكتابه "مقالات في النقد" مثلما فيه علمية، فيه سمو وصفاء رؤية شعرية. كما ان قصائده نماذج في الاتقان. آرنولد هذا يقول عن "الملك لير" : اقرأ العبارة مرتين او ثلاث! وبمثل هذا قالت ثلاثة اسماء، ثلاثة عقول من الفيكتوريين هم بيتل Beetle و استالكي Stalky و مكترك Mc Turk وأوردوا امثلة من متاعبهم. وهم جميعا لا يقولون ان شكسبير غامض. هم يقولون ما هو المعنى وراء كل هذا الوضوح؟ اكثر من معنى، اكثر من دلالة، والاشارات لاكثر من مسألة اجتماعية او شخصية او فكرية. نص واحد متقن واضح بليغ ومكتنز باكثر من معنى وبالعديد من الدلالات. هذه عافية، خلافا لما نشهده في بعض النصوص من فقر دم. وقد يصحب فقر الدم غموض كما يصحب فرط العافية غموض ايضاً.
هذا ينقلنا في الدرس الى جو آخر، تنحصر فيه الادانة او العيب، ان لم تكن جملة عيوب، في صناعة النص. أي الى المقدرة الشعرية، في حال تكرار الغموض أو العيب في عدد من نصوص الشاعر نفسه. حتى ان السيد بيتل يقول عن نص تذمر منه زميله ستاركي : "اتركه. هذه كتابة رجل مخمور". لسنا هنا مترفعين في قراءتنا ولكن الكتابة، او النص، تفتقد الاتقان. سلامة العمل الفني بوضوحه وعمقه وغنى محتواه. لسنا دائما أمام هذه المزايا، نحن غالبا بازاء مهارة غير كافية، نص لم يستقر بجلال وقوة او بجمال معنى.
لكن هذا لايسوغ قبول اللغة العادية لانها محددة و للإخبار لا للفن، هي لا مرونة لها ولا ثراء يكفيان لاستضافة معانٍ جليلة او جديدة. هي غير قادرة على منح دلالات، غير قادرة على كشف أفق. هي كلام يومي نعبر به عن أمورنا اليومية. ليس مهماً الشكل الذي تُكتَب فيه. حاجة الشعر ليزدهر ويكون محترما، الى تهذيب وابتداع صياغات. روح الشعر دائما في الكلام السامي، بتعبير جان كوهن.
علينا اليوم تقبل حقائق جديدة منها اننا لابد لنا من عقد صداقة حميمة مع الاشياء لنعرفها. ان كتابة شعرية مثل تلك التي لشيللي العظيم لم تعد عظيمة اليوم. والشاعر الجديد لا يرى نفسه جديدا حين يكتب بامتياز كما كتب شيللي في الريح الغربية:
اطلقوا افكاري الميتة عبر هذا الكون كالأوراق الذابلة
كي تعجل بميلاد جديد
مع اننا نكبر المعنى ونُشيد بموضوع القصيدة والروح المستقبلية فيها. لابد من تنحية العواطف قليلا اذا اردنا الوصول الى الحقيقة.
الحقيقة تقول : ان العصر بحداثته ما عاد يتقبل شعرا يكتب بلغة الصحافة او المقهى. هذه لغة للشعر اليومي العابر. للعمل الفني لغة اخرى والقصيدة عمل فني. حتى السرد في الشعر له امتيازه الاستيعابي وتآزر المعاني فيه، هو لكشف عالم ممتع او مقنع او مثير. كان هذا العالم مغلقاً قبل ان نقرأ القصيدة.