وهل كان العالم إلا مقبرةً ؟ قلت لكَ ذلك هامساً، أكلّم نفسي، وأنا أقف مع فريق من العراقيين والإيرانيين، الذين اهتدوا بي، شاهداً على مقبرة جماعية، لقتلى الحرب في إحدى الجزر، أسفل المدينة. كانت الجرّافات تحفر عميقةً، تفتش في الترب الرطب عن العظام والملابس وأقراص الحياة، التي كان يعلقها الجنود في أعناقهم قبل مفارقتهم لها. عظمٌ واحدٌ يكفي لكي يدلَّ على صدق ما رأت عينيَّ يومذاك، لذا رحت أشيرُ عليهم بانَّ جرافةً كبيرة، من صنع اليابان، صفراء بإطارات كبيرة، كانت قد شقت في الأرض هذه، لكن، قبل ثلاثين سنة شقاً طويلاً، ثم جاءت شاحنات عريضة، متربة بمئات الجثث، مرزومة وألقت بها في الشق الطويل، هنا وأشرت بيدٍ بالية، مرتجفةٍ إلى جهة بجوار الشارع الطويل، الذي يربط البصرة بشبة جزيرة الفاو. الجهة المعلومة من الأرض، هذه التي أعشب فيها الكثير من العاقول والحلفاء. لا، لم أرَ حناءً ولا فسيلَ نخلٍ هنا، في السبخة البعيدة هذه.
يقول ضابطٌ في الجيش الإيراني عن ترجمةٍ لأحد العراقيين معه، بانهم حفروا في مكان قريب من هنا، ولم يعثروا على مقبرة لجنود إيرانيين، كانوا شاهدوا في المكان الذي حفروا فيه عظيمات صغيرات متناثرة، قال إنها كانت مقبرة لأطفال الفلاحين، وظل يشير إلى أكثر من جهة، يسألني ما إذا شاهدتُ جنوداً يدفنون جنوداً آخرين في سبخة كوت الزين والمُطوْعة والقطعة والسيبة والمعامر او حتى في المملحة الواسعة، حيث يمتد الرمل ليصل بحر الفاو بالخليج. قلت: لا، كنت شاهد مقبرتين فقط، لا أكثر، واحدة صغيرة لعراقيين، خرجوا على الدكتاتور، هي بأقل من مئة جثة، عند سياج شركة ناقلات النفط، في ساحة سعد، التي تتفرع المدينة منها. وهذه الكبيرة لإيرانيين عبروا النهر المظلم، في ليلة ارتفعت مياه المد فيها حتى طاولت الساتر الترابي والاسلاك وقضبان الحديد، رموا بأنفسهم في الجزيرة الشائكة هذه، لكنهم لم يلبثوا فيها إلا الليلة واليوم، وحين كان صباح العاشر من شباط من عام 1986حملتهم الشاحنات جثثاً الى هنا.
لا أتحدث عمن انتصر أو خسر، أبداً، لكنني سألت الضابط الإيراني عمّا إذا كانوا يفتشون في الاراضي الايرانية عن قتلى عراقيين فقال: أي، نعم. وكان يسمّي الأمكنة والأزمنة لي، فتعثرتُ بحجر قربي ظننته عظماً، هالني ما تحدثَ عنه، وراعني عدد المقابر التي فتش فيها، وعدد الجثث التي عثر عليها مع فريقه. يا الله. ما أقبح أن تكون شاهداً على مقبرة، ما أجمل ان تكون بستانيا في حديقة عامة.
حين عثرتُ في أحراش قرية المعامر على جثة أخي، الذي قتله الجنود الإيرانيون ذات صباح ربيعي من عام 1988، لم اتمكن من حملها، كان مرمياً وسط حقل من الألغام، بين اسلاك شائكة كثيرة، مرَّ أسبوع على سقوطه هناك، ولم نتمكن من انتشاله، وحين عدنا به على نقالة الموتى، في معسكر بالقرب من جسر الزبير، كان الدود قد التهم الكثير من جسده. أتذكر أنني لم أخبر أمي بمصرعه، كنت أبددُ الأيام بيني وبينها، وأدّعي قرب عودته، اخي الذي لم نكن بحاجة إلى قرص الحياة المعلق برقبته لكي نستدل عليه. اليوم، وانا أرقب ذراع الجرافة الطويل، وهو يحفر في الأرض الرطبة، باحثاً عن الاجساد الـ 514 التي دفنها الجنود العراقيون هنا، أستحضرُ ما ظل منها عظاماً وثياباً وأقراص حياة. اتفرس في اسنان الماكنة الحديد، في جوف مكيال الجرافة، علّني أجد عُظيمة صغيرة، أستدل بها على المكان، الذي غيّرت ملامحه السنوات. أي نوع من السعادة هذه، التي سيحوزها فريق البحث لو أنهم عثروا على ما يشير ويؤكد صحة كلامي، وانا أدلهم على المقبرة الكبيرة، تلك التي لم أحفظ حدودَها بالضبط مع أني شاهدُها الوحيد.
شاهدةُ مقبرةِ قتلى الحربِ
[post-views]
نشر في: 30 يناير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...