وسط صخب فظيع، كانت اغلب الطاولات ممتلئة بالشباب، وتعلوها الكثير من قناني الجعة والويسكي وأنواع أخرى من المشروبات الروحية، كما ويتقدم تلك المشروبات بعض أنواع صحون الفاكهة أو (الجاجيك) أو أي صحن يكسر مرارة أو قوة المشروب.الفرق الموسيقية المتكونة من عاز
وسط صخب فظيع، كانت اغلب الطاولات ممتلئة بالشباب، وتعلوها الكثير من قناني الجعة والويسكي وأنواع أخرى من المشروبات الروحية، كما ويتقدم تلك المشروبات بعض أنواع صحون الفاكهة أو (الجاجيك) أو أي صحن يكسر مرارة أو قوة المشروب.
الفرق الموسيقية المتكونة من عازف أوركن، وطبال رقمي، تأخذ جانبا لتعزف بعض الأغاني المعلبة، وعندما تأتي المطربة تعزف لها الأغاني المكرورة، ولأنها غانية، كانت الأغاني جميلة يتمايل معها الشباب بمختلف أعمارهم، تطيل في موالها، وبعده تغنى الدبكة العراقية أو البستة الجنوبية، فيفقد البعض رشده، يومئ احدهم للمطربة كي تأتي جنبه، ليخرج حزمة من المال، ويبدأ ينشد فتوته وذكورته وتميزه عن الآخرين، تردد الغانية ما يقوله، ثم ينثر عليها بعض الأوراق النقدية الحمر والخضر، يتبع المطرية أينما ذهبت أحد صبية الصالة ليجمع المال الذي يتناثر عند قدميها، ليعود به الى الصندوق الخشبي قرب أحذية الفرقة الموسيقية التي تزيد عن ثلاثة أشخاص.
بعض الشباب من الذين عمل في عقولهم صخب المكان وخمره، ينهض من طاولته ويرقص قرب المطربة مع صديقه، عندها يتقدم أحد حماية المكان (البودي كارد) الى المكان، ليشعر عندها الراقصون الثملون، ان هناك حدودا يجب عدم تجاوزها، عندها ينسحبون الى طاولتهم، لتعود المطربة تتنقل بين الجالسين بعد إيماءات تأتي مقدما منهم إليها، عندها يتفاخر الشخص صاحب الإيماءة بعشيرته، ولقبه، وأهله، وعمله، ومنطقته، وكل عبارة يقولها تعيدها بعده المطربة متبوعة بكلمة (يعني).
عندما تنتهي نمرة المطربة تخرج من الصالة دون أن يشعر بها أحد، لأن الموسيقى الصاخبة التي تخترق المكان، تجعل الكلام شبه مستحيل، ليتحول الى إشارات بين الجلوس وإيماءات بالرأس، أو العيون، أو الفم.
تدخل مطربة أخرى ولكنها أكثر حشمة من التي قبلها، التي كانت دالعة الصدر، حاصرة (الجينز) متبغددة، متغنجة تتمايل برأسها عند الغناء فيتمايل شعرها معها، أما المطربة التي حلت بعدها، فكانت تلبس بلوزة حاصرة حتى رقبتها، لونها يسمى جلد النمر بين الأبيض والأسود، ولكن بنطلونها (الجينز) حاصر أيضا، يتبعها صبي الصالة، ليجمع ما تناثر حولها من الأوراق النقدية ليعيدها الى الصندوق الخشبي، كانت طفولية في صوتها، وحركاتها، في زاوية من المكان، ترقبها عيون امرأة كبيرة في العمر، في هذه الأثناء يدخل بائع متجول للدمى والعرائس التي تضيء بعض مناطقها بالأضواء الحمراء، شككت به انه أحد أفراد الأمن الذين لا يتركون أي مكان يعم الأمان فيه إلا وكان لهم فيه أصبع أو يد، ولم أعلم يوما أن الماخور يخرج إرهابياً أو مفخخاً، على عكس الجوامع والأماكن الدينية الأخرى، التي تصدر الموت الى خارجه وكأنه بحر فاض، فدمر ما حوله بعد أن دمر نفسه.
أومأت المطربة اليه أن يتقدم، وأزاحت الميكروفون عن فمها، وطلبت من الصبي الذي يقف خلفها أن يعطيه ثمن دمية اختارتها وسط مجموعة من الدمى، فأخذ ورقتين من النقود وأعطاها للبائع المتجول الذي يرتدي نظارات شمسية وسط الليل، والمصابيح، والإضاءة تعم المكان.
تسحَّب الصبي مسرعا الى حيث أودع الدمية، وعاد مسرعا الى المطربة، ومن ثم تنقلت بين طاولات الشباب، وبعض رجال الريف الذين يرتدون العقال واليشماغ، والثوب العربي، كانت طاولتهم ممتلئة بقناني المشروب، لكنهم لم يلمحوا للمطربة كي تأتي طاولتهم، بالرغم من أنها مرت بهم أكثر من مرة.
الصالة ركن بناية كبيرة جدا، تطل على شارع السعدون، سقفها الثانوي مليء بمصابيح النيون الملونة وكأنها عيون من السماء تنطفئ وتضاء، شبابيك الصالة المطلة على الشارع الرئيس مسدلة ستائرها، الصالة تحتوي على باب صغير لدخول الزبائن، بعد ان يفتشهم أحد الحمايات ، وشبابيك الشارع الفرعي أيضا مسدلة ستائرها، وتحتوي الصالة على باب خلفي لخروج ودخول المطربات، الشعبيات، والعشوائيات، والمشهورات، دون أن يشعر أي من الزبائن أو الطارئين بذلك.
الداخل الى الصالة ينقطع عن العالم الخارجي، يعيش أجواء المكان الصاخبة بالموسيقى والطرب، والخمر، وبعض النساء اللائي يقتتن من أجسادهن يقفن في الركن الأخير من الصالة، بينما تعتمر رفوف تقديم الطلبات بشتى أنواع المشروبات، وتشرف على الصالة بالعموم امرأة تجاوزت الأربعين أو دونه بقليل، فضجيج وصخب المكان يمنع التقديرات المقاربة أو الصحيحة، كما وتتنقل بين الطاولات فتاتان تجاوزتا العشرين بقليل، وشاب يقاربهن بالعمر لتلبية طلبات الزبائن.
كنت أطوف بنظري الى كل التفاصيل، كوني جالسا في المكان المهمل الذي لا يقابل المطربة التي تتجه نحوها كل الأنظار، ما ترك لي فرصة النظر بعدسة بانورامية تحيط بالمكان كله، وقد ركزت نظري على امرأة تضع على رأسها حجابا دون الرقبة، وهي تؤشر للمطربة بأن الوقت أزف ولم تكن الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا، لكن المطربة ودون أن تدفع الميكروفون عن فمها، قالت: (بعد وكت)، فقد لعبت الخمرة برؤوس البعض، وأصبح في تصرفاته كالمجنون، وهو بين الحين والآخر يطلب من المطربة ان تأتي قربه، وبعضهم طلب منها الجلوس، وكان من تجار الذهب، وكانت المطربة تعيد كل عبارة يقولها، والأنظار متجهة الى المطربة والشاب يشعر بنشوة التبختر فينثر على رأسها الأوراق النقدية، وكأنها بطاقات دخول ملعب كرة قدم، نثرها الجمهور نتيجة خسارة فريقه.
أخذت المرأة ذات الحجاب الدمية من يد الصبي، وبدأت بتفقدها وكأنها تعيد سيرة طفولتها. ولأن المكان يعم بالصخب لم تطل التأمل، شعرت المطربة ان الجالسين قد استنفدوها، أو استنفدتهم، فعادت قرب الفرقة الموسيقية، ومن ثم انزاحت الى حيث الغرفة الصغيرة، لكن الموسيقى بقيت تعزف الديجيتال، وسرعان ما أخذ يغني بعض الأغاني المخزّنة فيه، كنت أراقب تلك الغرفة، تبعها الصبي يحمل الصندوق الخشبي الذي جمع فيه المال المتناثر على رأس المطربة، وتبعته مسؤولة الصالة، أو هكذا أراها، وبعد قليل خرجت المطربة تتبع المرأة وهي منكسة الرأس، خرجت بعدهم مسؤولة الصالة تحمل الدمية برأس أصابعها، وقرب المغاسل وقفت، وبعد قليل وجدت يدها خالية، قلت في نفسي: ربما انها أخبرت المطربة، ان لا براءة في هذه الأماكن، ولا طفولة بعد اليوم.
جميع التعليقات 1
مزهرجبر الساعدي
حكايه أخباريه جميله. أخبارعن ليلة ماخور