( سيناريو معد عن مسرحية "مكاشفات عائشة بنت طلحة" للاديب خالد محيي الدين البرادعي . مع بعض مقاطع من مسرحية ابن جلا لمحمود تيمور ) . تتفرد مسرحية ( مكاشفات ) لمعدها ( قاسم محمد ) وسيناريو العرض والاخراج لـ ( غانم حميد ) عن بقية العروض التي تمت لي مشاهد
( سيناريو معد عن مسرحية "مكاشفات عائشة بنت طلحة" للاديب خالد محيي الدين البرادعي . مع بعض مقاطع من مسرحية ابن جلا لمحمود تيمور ) . تتفرد مسرحية ( مكاشفات ) لمعدها ( قاسم محمد ) وسيناريو العرض والاخراج لـ ( غانم حميد ) عن بقية العروض التي تمت لي مشاهدتها منذ اكثـر من سنتين والسبب الوجيه هو ما حمله النص المسرحي هذه المرة بولوجه مباشرة الى صلب المكاشفة ( الجريئة) وهو يحمل معه عذابات المجتمع العربي عموما والعراقي خاصة ماضيا وحاضرا .
اذا ما جزّأنا هذا التفرد لوجدناه قد اعتمد على اربع حالات ، اولاها:
النص : تحمل نصوص قاسم محمد في محتواها المكشوف والمخفي عذابات الانسان اعتمادا على المقولة التالية ( الانسان بنيان الله على هذه الارض ملعون من هدمه ) ، وهذه المقولة هي تأكيد على المسرحيات التي اعدها بنفسه او التي اخرجتها انا بدءا من ( شخوص واحداث من مجالس التراث ـ وحب ومرح وشباب ـ والحريق ) على مدى عشر سنوات ، ولو كتبها او اعدها اديب او باحث او دراماتورج او من هو قريب الصلة بفن الدراما لأنجزت بغير الثوب والمحتوى التي شاهدنا فيها اعمال هذا المبدع الكبير .
قاسم محمد حينما يسعى لتطويع اي اثر ادبي ، دراسة قصة او رواية فهو يضع نفسه قبل كل خطوة انجاز كمخرج يعرف متى تسيء الإطالة او الخروج المباشر عن الاثر الادبي نفسه فالمهنية والحرفية التي يتمتع بها قاسم محمد تفرض نفسها على النص الادبي على الدوام كما في اعماله التي كتبها او اعدها او تفاعل معها بدءا من ( النخلة والجيران ) وعبورا الى مسرحيات ( نفوس ـ كان ياما كان ـ شخوص واحداث ـ رسالة الطير ـ هولاكو ـ وآخرها اعداده او "تناصه " لمسرحية الملك لير ) والتي عنونها بالحريق .
كل هذه الاثار الفنية والادبية كان دائم البحث فيها عن عذابات وقهر الانسان .. صاحب الارادة وركيزة الحياة . ومسرحية "مكاشفات" ربما قد تفترق او تتجاوز الاهداف او المحتوى عن نصوصه السابقة الا بالقدر الذي يضع فيه قاسم مخيلته واحساسه على ما تحمله هذه القصة او الرواية او المصدر الادبي سواء أكان هذا الاثر قد عالج احداث التاريخ او اقترن بالحاضر ، الا ان دعوته قائمة باستمرار داعية للنظر الى كون الانسان جزءا لا ينفصل عن مسيرة الحياة السالفة او الحاضرة سواء بصدقها او بزيفها .يبحث قاسم في تناوله لنصوصه المتعددة عن ( الصراع ) الدائم في الماضي أو الحاضر بين قطبين سواء أكان حاكما او سلطة أم مواجهة فيها الحكيم والجاهل ، فيها الغني والمترف والفقير الجائع وبينهما ( فئة ) او ( طائفة ) تتحايل على الاثنين لمنفعتها الذاتية وقاسم يضع نفسه في اغلب عروضه كمبدع متميز بل وعالم في شؤون المسرح عموما ولكنه برغم السنين التي بذلها من اجل مشروعه ظل قانعا متواضعا تارة وتارة مواجها صلبا من اجل عدالة الانسان وقيمة الحياة .
واذا ما أكدنا قيمة وأهمية هذا ( الصراع ) فهو واضح هذه المرة في مسرحية ( مكاشفات ) بين ارملة مصعب بن الزبير ( عائشة بنت طلحة ) المرأة صاحبة مجالس الادب والشاعرة التي تهتم بالعلم والسيرة وعلم النجوم وبين امير العراق في حكم عبد الملك ابن مروان ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) ينبثق هذا الصراع بين القطبين وبالتالي هذا الامر هو سمة المسرحية الناجحة بين حاكم جعل السيف والقوة هما عنوان مسيرة الحكم لديه .
( اما والله اني احتمل الشر مجمله ... واذروه واجزيه بمثله ) ، (اما والله لالحونكم لحو العصا ... واني والله لا اعد الا وفيت...واني والله لادعن لكل رجل منكم شغلا في جسده ... متى وجدت بعد الان من يقف في اكثر من خمسة رجال ، عددته خارجا وسفكت دمه وانتهبت ماله ) بينما يقف قطب الصراع الاخر الذي يتصدى دون خنوع او مسكنة امراة ، انها ارادة المرأة القوية التي لا تخفي ضعفا منطلقة من اسرة عريقة رافقت الادباء والشعراء فتملكت سلطة المواجهة القوية امام ( دكتاتورية ) ، وسلطة رجل يحلف باسم الخالق ان لا يدفع رعيته دون ختان بالوقت الذي تنطلق عائشة من جوهر حقيقة المرأة المثقفة بدعواها الجريئة ،(هذا ما حببني في الدنيا ، الشعر وسور القران واحاديث رسول الله وخرق الليل بضوء الايمان ، اما مسألة الأمن فسر لا يعرفه الا القتلة ) وهي بهذا تنطلق من الرسالة الحقيقية للمثقف بدعواه الجريئة لقول الحق حتى لو دفع مقابل هذه المواجهة حياته وهكذا هي عائشة القائلة (قد يشكرك الاخرون اذا قرأوا التاريخ ومشوا مبهوتين بأرض غصت بالدم وارتجفت رعبا من اشلاء القتلى والاعناق المقطوعة غدرا والموتى في ليل سجونك صبرا والرعب المزروع بافئدة النسوة والولدان والخوف المتنقل في الطرقات المغلقة وكأن جميع الناس على فوهة بركان يتلفت عاقلهم ليبلغ غافلهم سيف الحجاج قريب منك حاذر انه الحجاج بكل مكان حاذر حاذر حاذر ) .
غانم حميد مخرج مجرب ومتذوق يدرك بفهم عال معنى التوظيف من خلال ادواته - سينوغرافيا ـ استخدامات موسيقية غنائية غانم فرق بين الشجاعة والحكمة اراد ان يعبر بسخط عن فائدة الشجاعة عندما تقطع رؤوس الناس بالسيوف او السكاكين فالنتيجة التي تخلفها الشجاعة بقتل الاف الاطفال بالبراميل المتفجرة وان تحول الساكن والمتحرك الى مقابر والرجال والنساء والاطفال الى ركام يتحول فيما بعد الى تراب ولكنه عبر بنفس الوقت عن الفائدة التي يجنيها الحكام حينما يتصفون بالحكمة والروية وهو هنا يجني الفائدة له وللمشاهد عن طريق هذا الاسقاط من التاريخ الى زمننا الحاضر والوقائع اثبتت ما هو واقع في دول عربية متعددة .
ان هدف الدراما الحقيقي والناحج هو كشف لوقائع الحاضر للمستقبل والا فما هي الاسباب الوجيهة لأعمال شكسبير وغيره تقدم حتى وقتنا الحاضر على مسارح العالم لكونها تقول اشياء كثيرة عن ماضيها وحاضرها لذلك فان الصياغة ( بجهد مخرج مبدع جريء ) لمثل هذا النوع من الدراما تعتمد على ذاكرة معاصرة متقدمة مهنيا في ساحات المسرح المتنوعة وغانم في هذه المسرحية كان اكثر وضوحا في تقديم عمل تاريخي ولكنه يحكي مأساة الحاضر عراقيا وعربيا .ان مثل هذه الاشكالات الصعبة لا يتناولها في التحليل والاضافة الا القليل جدا من المخرجين من ذوي الاحتراف العالي ولا يمكن اداؤها على ضوء النص وملاحظات المخرج الا من لهم القدرة الذهنية الابداعية لان تطبيقها حتى تصل بسهولة الى ذهن وحواس المشاهد تتطلب جهدا غير اعتيادي بالكيفية والاسلوب الذي اراده المخرج فكم من المخرجين من يمتلكون قدرة (تطويع النص ) ولكن الكارثة تكمن في النهاية على قدرة الممثل كوسيلة التعبير التي تخدم النص والمخرج معا .
من كل ما ذكر تتوضح لنا القيمة السياسية والفكرية لهذا العرض المسرحي على الرغم من بعض نقاط التباين بينما اعده المرحوم قاسم محمد وما انجزه غانم حميد بالمحصلة الابداعية الاخيرة وما عبر عنه الفنانون المبدعون شذى سالم وميمون الخالدي وفاضل عباس يؤكد القيمة والنتيجة الباهرة التي قدمت بها المسرحية.
الفنانة القديرة شذى سالم اقترنت ولادتها وعلاقتها الصميمة في المسرح منذ اكثر من ثلاثة عقود تركت اثارا متميزة في التمثيل المسرحي .فهي منذ ان تخرجت من معهد الفنون الجميلة اصبحت لها شراكه حقيقية ومؤثرة في المسرح واذكر منها ( كان ياما كان والنجمة البرتقالية ودعوة برئية للحب وسقوط طروادة ) خاصة معي وما حصلت عليه من ادوار متميزة في السينما والتلفزيون وفرت لها خزينة هائلة من خلال الادوار الصعبة .
في مسرحية ( مكاشفات ) اقتحمت فيها دورعائشة كأصعب وأثقل مسؤولية عن باقي الاعمال المسرحية التي شاركت فيها لمساحة الدور الكبيرة بل الصعبة وخاصة ذلك التنوع الذي ادخلها فيه مخرج المسرحية حينما تنتقل من مرحلة الى اخرى شخصية تاريخية عربية شخصية محلية وكل هذه المراحل مع صعوبة التنفيذ كانت هذه الفنانه القديرة متوهجة متنامية ومتصاعدة منذ البدء حتى نهاية العرض كما منحها الدور فرصة لكشف قدراتها الابداعية في اداء الكوميديا والمأساة وفي كل منهما يتوجب الحرص بدقة على عدم الانزلاق الى رغبة الجمهور في مواقع محددة. لذا كانت شذى حريصة على اداء وظيفتها بالوصف والاداء الرفيع المستوى ولا نغفل امكانات شذى الجسدية في مثل هذه الادوار الانفعالية والتي تتطلب القدرة على الثبات تارة والحركات والتنقل على خشبة المسرح برشاقة وجمالية .
وكما تنطلق صعوبة دور عائشة مما ذكر اعلاه كان لابد ان يكون للفنان القدير ميمون الخالدي صاحب الاداءات الصوتية المتعددة لكونه استاذا اكاديميا ولذلك ظل متواصلا بنفس الوهج والتواصل على الرغم من صعوبة المسؤولية من ( شخصية تاريخية الى محلية الى ريفية ) واجمل ما يملكه ميمون هو قدرة التفاعل والحرص على ان ينتقل في حدود دوره على مناهج تمثيلية واخراجية (ستاتسلافسكي ـ بريتولد برخت ـ بروتوفسكي ) دون خلل يتأتي من ضمور في تنامي المشاعر بسبب حجم الدور والمهمات الصعبة منها المبارزة والرقص التعبيري والغناء الادائي وكل هذا منح فناننا الكبير قدرة التواصل الممتاز بمفردات الدور وحيثيات الاحداث .
اما فاضل عباس فهو لم يؤد وظيفة خادم العرض كما هو مثبت في (فولدر المسرحية ) انما كان هو المعبر الحقيقي عن الفئات التي تخدم ( منوعة في هذه الخدمة ) فهو تارة طبال الامير الانتهازي والمتلون الذي يجعل من وظيفته وهي جاهزة لكل اوان كما هو الضابط والاستخباراتي الذي يحصى بالايماءة والنظر في كل صغيرة وكبيرة طالما سيده باق يحمل سيفه الجاهز لقطع الرقاب وذكور الرجال. فاضل ممثل متنوع المسؤوليات برز بقدرات ادائية متعددة في مسرحيات كان فيها اداؤه ومرونته الجسدية العنصران البارزان في اداء الجسد لذا كان ظهوره في هذه المسرحية منذ بداية يثير المتعة والانشراح .
ولا يسعني الا ان اقدم الشكر والتقدير لمن كانت له علاقة مباشرة سواء بالافكار او التنفيذ لعناصر السينوغرافيا والتي هي فن الشكل المرحي والمساحة الفارغة التي ترسم ضمنها اكثر من لوحة جميلة ومعبرة.
ان كل ما حصل على خشبة المسرح يعود الى الفهم الصحيح للتنوع بفضل فن السينوغرافيا فهو التشكيل البارع في الكيفية التي وظف فيها ( فضاء الشكل ) على حد قول (فاختاكوف ) . تحية لمن فعل الحياة على خشبة المسرح وهم يجتهدون باخلاص خلف الكواليس (نهله داخل ، علي محمود السوداني ، كمال حسن ، سيف العبيدي ،وسام جعفر،هشام كاظم ، زياد الهلالي).