TOP

جريدة المدى > سينما > هل ساهمت الدراما بتغيير المجتمع؟

هل ساهمت الدراما بتغيير المجتمع؟

نشر في: 4 فبراير, 2016: 12:01 ص

كان للسينما عند انطلاقها في الربع الاول من القرن العشرين، تأثير سحري عالٍ على المجتمعات كافة، ومنها العربية، باعتبار ان السينما فن وصناعة وثقافة عامة بوقت واحد. وقد اصبحت الشغل الشاغل للناس والتسلية الرئيسية لهم. ففيها اطلاع على عوالم جديدة وثقافات م

حميدة العربي

كان للسينما عند انطلاقها في الربع الاول من القرن العشرين، تأثير سحري عالٍ على المجتمعات كافة، ومنها العربية، باعتبار ان السينما فن وصناعة وثقافة عامة بوقت واحد. وقد اصبحت الشغل الشاغل للناس والتسلية الرئيسية لهم. ففيها اطلاع على عوالم جديدة وثقافات مختلفة وافكار محرضة وقصص مؤثرة وحكايات غريبة وطرائف، اضافة الى الموسيقى والغناء والرقص..
ثم ما يتطلبه الذهاب الى السينما من خروج من المنازل والالتقاء مع الناس في مكان عام واحد، لم يكن متيسرا قبل ذلك الوقت. خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية حيث اصبحت المجتمعات اكثر انفتاحا وتقبلا لكل جديد، وازداد اقبال الناس على الحياة ومباهجها، فبدأ عصر النهضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي افرزت اجيالا ثورية تقدمية تنادي بالتحرر وتسعى للتغيير، فتضاعف بذلك دور السينما وتطورت تطورا واضحا، فنيا وفكريا وتقنيا، وازداد تأثيرها على اغلب المجتمعات.  
وحتى ظهور الدراما التلفزيونية، في الخمسينات، لم يقلل من سحر السينما ومكانتها وتأثيرها على الناس في مختلف انحاء العالم. فالسينما، عموما، تعمل على تركيز الفكرة المطروحة وتكثيفها وايصال اهم الرسائل والافكار بوقت قصير نسبيا، هو وقت الفلم، في حين تضيع الافكار او تتبعثر، في الدراما التلفزيونية بسبب طول الحلقات والعرض الاسبوعي والايقاع البطيء الذي يميزها. واستمرت السينما ـ كفن وفكر ـ تشحذ الخيال وتستفز المواهب وتهذب الذوق فنيا وجماليا، وساهمت بتقديم العديد من الافكار العلمية التي تحولت الى واقع فيما بعد، خاصة في افلام الخيال العلمي مثل ( انتربرايز ـ ستارتريك ) التي تحول قسم منها الى مسلسلات تلفزيونية، ومن اهم تلك الافكار، البلوتوث والابواب المنزلقة والشاشة المسطحة ـ البلازما ـ وبعض الاجهزة الالكترونية، التي استعملها رواد ستار تريك، لقياس ضغط الدم ودرجة الحرارة ومستويات الاوكسجين وضربات القلب، تحولت كلها الى حقائق تباع في الاسواق. اما الروبوت المنزلي فقد ظهر في فيلم كارتون ( حنا وباربرا ) ثم في مسلسل ( الاعجوبة الصغيرة ـ فيكي ) قبل اكثر من ثلاثين سنة والذي تحول ـ اخيرا ـ الى حقيقة، يستعمل لمساعدة المرضى وكبار السن.
وكانت السينما مصدر الدعاية الرئيسي، فعندما تظهر موضة معينة في احد الافلام المشهورة.. تنتشر تلك الموضة بسرعة هائلة في العالم.. بعكس ما يحدث اليوم، حيث يفرض المصممون موضاتهم على الناس ومنهم الفنانون الذين ينقلونها، بدورهم، الى السينما والتلفزيون.
اما السينما العربية ـ الناطقة ـ فقد انتجت منذ بداياتها، في الثلاثينات من القرن الماضي، عددا كبيرا من الافلام بمختلف المستويات.. الفنية والفكرية والتقنية.. تتراوح بين الجيد جدا والجيد والعادي.. وكانت لهذا الانتاج الضخم اضافة نوعية على مجمل صناعة السينما والمجتمع على حد سواء.. فالافلام ذات المستوى العالي فنيا وفكريا تساهم في نشر الوعي الاجتماعي والثقافي بطرق مباشرة او غير مباشرة وتلهم الموهوبين افكارا وابتكارات جديدة في مختلف الاختصاصات. اما الافلام ذات المستوى المتوسط فكانت تحوي، على الاغلب، رسائل اجتماعية ايجابية ونصائح وارشادات ومعلومات متنوعة. واغلبها يؤكد انتصار الخير على الشر ونشر المحبة والتسامح ونبذ العنف والانتقام.. وحتى الافلام العادية لا تخلو من تلك الرسائل الانسانية رغم بساطتها، كما وفرت تلك الافلام المتعة والتسلية للمشاهد الذي تعود، بمرور الوقت، على ذائقة معينة وخلطات فنية مسلية. وقدمت السينما، في عصرها الذهبي، موضات جديدة ( او ستايل ) في الازياء والديكور والاتيكيت والمعلومات العامة والدعاية السياحية والكثير من الرسائل الفكرية والاجتماعية والافكار المهنية والعلمية، وشجعت المرأة على الخروج الى العمل والدراسة والنشاط الاجتماعي والاقتصادي ما ساهم بنشر الثقافة المدنية، العصرية.. وبهذا غيرت السينما ـ خلال الثلاثين سنة الاولى من عمرها ـ وبشكل واضح من طبيعة المجتمعات العربية وطورت علاقات ومفاهيم جديدة للتعامل والتعايش فطبعت تلك الحقبة بطابعها، ما يسمى ـ حاليا ـ زمن الاسود والابيض او الزمن الجميل، والذي تميز بالجمال والاناقة والرومانسية والغنى الفني والقيمي والمصداقية ـ في المشاعر والتعامل ـ وهذا ما تفتقده الدراما الحالية التي تحولت ومنذ السبعينات الى الواقعية البحتة ونقلت تفاصيل الواقع بطريقة توثيقية، تسجيلية، ولم تضف له شيئا او تغير من نمط حياته، تاركة ذلك للسياسة، ولم تقدم ما يساهم بتغيير عقلية المجتمع نحو الحداثة والمعاصرة او نشر ثقافة انسانية معينة او ظواهر ايجابية، بل بالعكس رسخت اللامبالاة والاتكالية وسجلت انحسار للروح المدنية والحضارية امام المد الديني المتشدد وعودة الافكار والممارسات القبلية والعشائرية. وباسثناء اعمال قليلة، قدمت مواضيع اجتماعية في محاولة للتغيير والتأثير الايجابي، كالاعمال المأخوذة من الادبين العربي والعالمي، وبعض الاعمال المصرية والسورية، فإن الاعداد الهائلة من الدراما التي انتجت خلال ربع القرن الماضي، اهملت الجوانب الفكرية المؤثرة وركزت على الجانب القصصي والسردي للحكايات، واعتمدت إلاسلوب الدعائي التجاري، كمبدأ اساسي، ولم تؤثر على المجتمع الا بالشكليات والامور السطحية، كالتنافس على تغيير المظهر ( اللوك ) والتقليد السلبي للآخرين ومتابعة الشؤون الثانوية والشخصية لأهل الفن.
ولم يكن للدراما العراقية، رغم قدمها، اي تأثير يذكر على المجتمع بسبب اجترارها للافكار والمواضيع المحلية، وضيق الافق الذي تتحرك ضمنه، كما ان بث تلفزيون بغداد، وحتى منتصف السبعينات، كان يغطي العاصمة والمدن القريبة منها فقط، اما بقية المدن فلا يصلها البث، والكثير منها كان يستقبل البث التلفزيوني لبعض الدول المجاورة.. في حين كانت دور السينما منتشرة في كل المدن الكبيرة والصغيرة ولها جمهورها الواسع، المتنوع، والمتابع بشغف.. والذي يعتبر عنصرا فاعلا في نشر ورواج كل ما تعرضه شاشات السينما ـ من جديد ومبتكر ـ في المجتمع، ما ساهم بتغيير العقلية الجمعية، وافرز، تدريجيا، ثقافة اجتماعية جديدة متنورة.. فجمهور السينما يذهب قاصدا، متقصدا، لمشاهدة الافلام.. وهو مهيأ نفسيا وذهنيا لمتابعة واستيعاب ما يعرض على الشاشة، وقد تكونت لديه توقعات وتصورات تحرّض الخيال وتحث على التفكير والاستنتاج، فيخرج من السينما ليدخل في نقاشات وجدالات متشعبة ويبتكر مشاهد جديدة ويقترح احداث بديلة ونهايات مختلفة لما عرض امامه، ما يعزز وعيه ودوره كمؤثر ايجابي.. وبعكسه فإن جمهور الدراما التلفزيونية، المتكون بغالبيته من الفئات الاقل تعليما، تعرض عليه الاعمال، كما الإجبار، وهو جالس في بيته وسط عائلته وهمومه اليومية، راضخا لهيمنة النزعة الاستهلاكية، ما جعله متفرجا سلبيا، غير فاعل، لذا لم يتأثر بالدراما ولم يؤثر في المجتمع من حوله. ولاحقا، ساهم التطور التكنولوجي المتسارع، باضعاف دور المتفرج وتهميشه.. ومع هيمنة الدراما المصرية، سينمائية ثم تلفزيونية ـ منذ الثلاثينات وحتى منتصف التسعينات ـ على مجمل الساحة العربية بغزارة انتاجها وتنوعه، مع تعدد شركات التوزيع العربية ونشاطها في تنويع وضخ الاعمال الفنية الى دور السينما والمحطات التلفزيونية. ظلت الدراما العراقية، معزولة، تراوح في محليتها دون تأثير مهم على المجتمع حتى في احسن ظروفها. وبعد 2003 اختفت السينما من المشهد الثقافي والاجتماعي في العراق واختفت معها تلك الفئات التي نشأت على حب الفن السابع وادمنت متعة الذهاب الى السينما واكتسبت فائدة مشاهدة الافلام المتنوعة ووظفت الاستفادة من تلك الصناعة الجميلة، فنيا واجتماعيا واقتصاديا. وظهر تأثير غياب السينما، جليا، في المجتمع بتراجع الحياة المدنية واختفاء الممارسات الحضارية والذوق العصري، واصبحت لدينا اجيال لا تعرف ما هي السينما واخرى لم تسمع بها، مكتفية بمشاهدة الدراما التلفزيونية التي لا تهتم بالتغيير والفكر والتطور بقدر اهتمامها بكسب الارباح والدعاية الجوفاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram