ترجمة: علي عبد الأمير صالحهذه رواية جيدة جداً مع أنها الرواية الأولى المتقطعة المكتوبة من قبل كاتب فرنسي شاب (يبلغ عمره أربعاً وعشرين سنة) وتُرجمت بصورةٍ جيدة الى الانجليزية البريطانية، بعضهم، على أية حال، أخفقوا في التقاط العنوان (Le Proces – verbal)
الذي يشير الى التقرير المكتوب عن حادث مفاجئ، أو واقعة مهمة أو دعوة قضائية. يقدّم لنا كتاب جان- ماري غوستاف لوكليزيو هذا فقط. إنه تقريباً الوصف الموضوعي لفاجعة رديئة النوع (قصاصات صحيفة متخيلة، فراغات بيض بين الكلمات أو السطور وعبارات مشطوبة تم نسخها) عن اكتشاف جلي لذات رجل، فضلاً عن عدم قدرته على التغلب على مشكلات ومصاعب وضعه الشخصي. الشخصية الرئيسة- الشخصية المهمة الوحيدة في الرواية - تحمل اسم آدم پولو، معنى الاسم الأول واضح (ربما هو واضح جداً)؛ أما نهاية أسم العائلة فيوحي بقرابةٍ ما مع المؤلف؛ اللغات الاسبانية، الايطالية وحتى الإغريقية التي يترجّع صداها في هذا الاسم الأخير، ربما كانت إثارتها مقصودة أو غير مقصودة. في مقدمة الكتاب المختصرة يقول لوكليزيو إنه كتب "قصةً عن رجلٍ غير متيقن ما اذا غادر تواً وحدةً عسكريةً أم ملجأً عقلياً"، في حقيقة الأمر، كان قد فرّ من أسرته – واذا ما تحدثنا بصورة عامة، فقد فرَّ هو من المجتمع الإنساني، ان السخرية المُرة التي يحسها المرء في العرض التمهيدي تخللت الرواية كلها. كان آدم پولو قد لجأ الى منزلٍ خالٍ قريب من "مدينة منتجعية" متوسطية، يستمتع هناك بالشمس، بالسجائر، بالبيرة بين حين وآخر وباستبطانه لأفكاره ومشاعره الذي كان يستغرق زمناً طويلاً، مع أنه ليس كارهاً لسرقة السلع المعروضة في الحوانيت، يبقى على قيد الحياة بفضل النقود التي تمنحها إياه، بصورةٍ غير قابلة للتصديق نوعاً، شابة صادقها وأغواها، بين آنٍ وآخر، يحاول أن يحسب نفسه في مراحل أوليةٍ من حياته، كي يغسل جنون الحضارة، يستلقي بلا حراك في شقٍّ وسط الصخور، يدور في خلده أن بوسعه الوصول الى حالة الأشنة؛ يتعقب كلباً عبر طرقات المدينة، ويحاول أن يتماثل مع تجارب الحيوانات. وذات يوم يذهب الى حديقة الحيوانات راغباً بأن يندمج عقلياً وحسياً مع البهائم المختلفة، يراقب اللبوة بدقة وكذلك إناث حيوانات أخرى مثلما يتخيل هو أن يفعل ـ ربما ـ ذكر من صنفها الخاص، التجربة، على أية حال، قلّما كانت ناجحة، وينتهي به المطاف بوقوف امرأة هرمة تبيع الموز كي تطعم الحيوانات، بعد أن يشتري موزةً له يغريها بالمشاركة في حديثٍ ما ويكتشف أنه أصبح مولعاً بها: انه كائن بشري على أية حال. إن عدم استطاعته الهرب من حالته كان أمراً مفروضاً عليه بصورة متكررة وبطرائق شتى، إن إدراكه العميق جداً بإنسانيته يأتي إليه حين يواجه فأراً أبيض في منزل مهجور. مع أن ذهنه العقلاني يرى التناظر بين الفأر وذاته هو- لا بل حتى يظن نفسه فأراً أبيض، بصورةٍ مجازية يتحول الى فأر- تنتصر الغريزة فجأةً: هذا عالم إنسان لا مكان فيه للفئران، وعليه أن يقتل هذا الفأر. إن سخرية حالته أخاذة بصورةٍ مضاعفة أولاً، عبر الجزء الغريزي غير المتحضر من كيانه يتوصل الى الإدراك بأنه ينتمي الى مجتمع البشر؛ ثانياً، حين يعود الى صنفه الخاص ويبدأ بمخاطبة حشود الناس في الشارع قائلاً لهم: "نحن جميعاً متشابهون، كلنا أخوة"، يظنونه معتوهاً، وفي الحال يتم إيداعه في مؤسسة حيث يجري معه صف جاد من طلبة علم النفس، يرشدهم (بروفيسور) مضجر. حين تنتهي الرواية ويجد پولو، بصورةٍ متناقضة ظاهرياً، عزلةً وسط البشر، نستطيع أن نفهم أنه سعيد، "في أي يومٍ من الأيام، على أية حال، قد يحدث شيء ما". عشرون سنة تقريباً تفصل ظهور رواية (المحضر الرسمي) عن ظهور رواية (الغريب). لوكليزيو كاتب أقل براعة بكثير ويفتقر الى النضج الذي حققه ألبير كامو حين نشر روايته الأولى، لوكليزيو أيضاً يفوقه تشاؤماً بدرجة كبيرة، كونه سبر أغوار الأساطير وعقلنات المجتمع، يفتش بطله عن فهم أوسع للحياة، ولأنه يخفق في تحقيق هذا الهدف، يقتنع بـ نصف حياة في المصح العقلي، فهو لم يعدْ متيقناً من هدفه لا بل هو يشك فيه كما يشك في أي شيء آخر. كان كامو راضياً بطيبة الحياة وصلاحها، لذا فقد ثبت مباهجه في العالم المادي؛ اما لوكليزيو فلديه الانطباع بأن "ليس ثمة شيء يضاهي الحقيقة". وعلى غرار بطله انه مليء بالوعد، إلا أنه يفتقر الى التدريب والإرادة التي ربما شكلتْ أسلوباً ما وهدفاً ما، هو ما يزال في مقتبل العمر، على أي حال، وأي شيء يمكن أن يحدث.
لوكليزيو فـي (المحضر الرسمي)..بـطل مأزوم يغسل جنـون الـحـضارة
نشر في: 17 يناير, 2010: 06:37 م