انتهت زوبعة "سد الموصل" كما بدأت. الغموض كان سيد الموقف في التعاطي مع هكذا ملف حساس أقضّ مضاجعنا خلال الأسبوعين الماضيين. بدأ غامضاً وانتهى كذلك، هذه قصة السد بكل بساطة!
أصبحنا ذات يوم على وقع تحذيرات من غرق وشيك، أسماه البعض طوفاناً، ونعته آخرون بتسونامي، يهدد بتشريد وقتل 5 ملايين عراقي، وخراب يمحو مدناً كبيرة عن بكرة أبيها.
لقد تعرضنا طيلة اكثر من أسبوع لإرهاب منظم بواسطة بروباغندا مدروسة، لا تقل عن الحرب النفسية. في غضون ايام قليلة تحول الطوفان المرتقب الى حديث الشارع، بل بدأ الكثير من المواطنين التحسب من هذا الخطر بخزن الطعام وتهيئة مستلزمات الإغاثة.
تدحرجت كرة التسريبات بوتيرة متسارعة لتبلغ ذروتها بالحديث عن ان سد الموصل ومصيره أصبحا الشغل الشاغل لرئيس أكبر دولة في العالم. فبحسب المطلعين، فإن أوباما لم يعد يفكر بالتحدي الصيني لاقتصاد اميركا، ولا الاندفاع الروسي في قلب الشرق الاوسط، ولا انطلاق السباق الرئاسي بين الجمهوريين والديمقراطيين. الرجل لم يعد يتناول فطوره قبل الاطمئنان على سد يعتبر أكبر قصة فساد للدولة العراقية قبل 2003.
وكعادتها ، التزمت حكومتنا الصمت وتركت مواطنيها عرضة لموجة رعب غير مسبوقة مدعومة بتصريحات أميركية هذه المرة. من يجرؤ على تكذيب الأميركان يا ترى، ومن لديه المصداقية للحديث عن ذلك؟ اذن فالطوفان لا محالة قادم!
سألنا حينها عن سبب انبعاث هذه القصة فجأة ومن دون سابق إنذار، رغم معرفتنا بالوضع الفني للسد، لكننا لم نتلق سوى مزيداً من التهويل. طلبنا من الحكومة موقفاً عراقياً يزاحم تصريحات الجنرالات الاميركان حول وضع السد، فتم تكميم أفواه مسؤولينا ابتداءً من الوزير ونزولاً لخبرائنا الذين يواصلون إدارة السد منذ افتتاحه مطلع الثمانينات.
على سبيل المثال، تم تجاهل تطمينات عون ذياب، الخبير الأشهر في مجال المياه والسدود، والمصدر الأوثق في هذا المجال لدى جميع الصحفيين والمهتمين. ذياب وصف التسريبات التي يطلقها "غير الخبراء" بأنها مثيرة للسخرية، رغم اعترافه بمشاكل السد المعروفة.
قريب من هذا الموقف، ألقى مهدي رشيد، المدير العام لدائرة السدود في وزارة الموارد المائية، الكرة في ملعب الحكومة للرد على ما وصفها بـ"الأجندة" التي تقف وراء إثارة المخاوف من انهيار السد.
تحولت قصة نشرتها نيويورك تايمز، فضلا عن تسريبات غامضة، المصدر الوحيد في هذا الشأن. لم يعتد احد بما يقوله عشرات الخبراء العراقيين الذين يعرفون اصغر نهر في أبعد نقطة من العراق.
الآن وقد أحالت الحكومة العراقية صيانة السد الى شركة إيطالية بمبلغ 2 مليار دولار، فانها تكون قد أطلقت رصاصة الرحمة على دور التكنوقراط في إدارة مفاصل الدولة.
وليس من باب المبالغة اذا ما اعتبرنا ان قرار العبادي باعتماد شركة أجنبية، مهما قيل عن تخصصها، بمثابة إعدام معنوي لآلاف الخبراء المحليين الذين يديرون بكفاءة ما تبقى من دولة نخرها فساد المحاصصة السياسية.
لكن الغريب ان العراق يكاد ان يكون الدولة الوحيدة في العالم، التي لايثق رئيس حكومتها برأي وزير رشحه بنفسه ضمن طاقمه الوزاري وقدمه امام مجلس النواب لمنحه الثقة. كيف ترشح من لا تثق به؟
ان طريقة التعامل مع قضية "سد الموصل" تلقي الضوء على حجم الاستلاب الذي تعيشه الطبقة السياسية العراقية أمام التحديات التي تواجه البلد. كما تكشف هشاشة ثقة هذه الطبقة بقدراتنا المحلية التي ساعدت في بناء وتقدم دولة في المحيط الاقليمي.
أخشى أن تكون صفقة "سد الموصل" نهجاً ناعماً بات يتكرس في ادارة الدولة. يبدأ هذا النهج من ركن خبرائنا المرموقين، ولا ينتهي ببيع عقارات الدولة وخصخصة قطاعتها والعودة بنا الى زمن الاقطاع السياسي قبل 1958.
منذ هذه اللحظة لن يعود الحديث عن "حكومة تكنوقراط" ذو قيمة، فنحن ندخل عصر الدولة المعروضة للمزاد، والحكم سيكون لمن يملك وليس لمن يفكر. ولا أظنني بحاجة للكشف عن طرق الإثراء في هذا البلد، فأنتم أعرف!
رصاصة في رأس التكنوقراط
[post-views]
نشر في: 3 فبراير, 2016: 09:01 م