TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تناقضات توظيف الحرية في الثقافات إلإنسانية

تناقضات توظيف الحرية في الثقافات إلإنسانية

نشر في: 6 فبراير, 2016: 09:01 م

ابتكرت الثقافات المختلفة  مفردات  غير مسبوقة للتعبير عن  مفهومها للحرية ،  مع إن تلك المجتمعات القديمة ذاتها كانت تعتمد نظام العبودية والقنانة إلا أن قاموسها اللغوي كان يزهو بمفردة الحرية ويفسرها على أنها من ضرورات الحياة  الانسانية – فالسومريون ومعظم الحضارات الزراعية الأولى في بلاد الرافدين كانوا يعتمدون  على نظام العبودية  لخدمة اقتصادهم الزراعي ومعابدهم ومع ذلك  فقد ابتدعوا كلمة ( أمارجي )التي تعني الحرية وامتلاك الانسان لمصيره ، فقد وردت كلمة أمارجي في متن قانون الملك "اورو انميكينا" من عصر دويلات المدن . ورغم تداول المفردة لبثت على مدى آلاف السنين  موقوفة الفعل في بلاد الرافدين . فنظام العبودية ظل قائما وثورة الزنج إحدى براهينه ،لعل الحاكم الذي استخدم كلمة أمارجي في وثيقته القانونية كان رؤيويا حالما تراءى له الانسان المقهور في تلك الحقب الغابرة وقد انعتق من أغلاله وانطلق في حياة تليق  بإنسانيته على الضد مما كان سائدا  في مجتمعه  الطبقي  الذي يقر بامتلاك  البشر وتسخيرهم  لمصالح شخصية واقتصادية.
في عصور ما قبل التاريخ والحضارات اللاحقة التي عرفت التدوين ،كان الانسان الحر يعني نقيض العبد من الوجهة القانونية ، فالعبد كان مملوكاً لإنسان آخر يتمتع بحرية بيع وشراء البشر واستعبادهم لانتمائه إلى طبقة الاحرار. وكانت  المجتمعات القديمة تعترف بالعبودية وامتلاك الإنسان كنظام راسخ  لايمكن مناقشته لتحقيق رفاه شخصي أو منافع اقتصادية أو لاستخدام العبد  في الأعمال  المرهقة واستغلت الحضارات البابلية واليونانية والفارسية والآشورية والفرعونية والمصرية العبيد الأرقاء في بناء المعابد والأهرامات والزقورات متعددة الطوابق    وقصور الملوك الأقدمين ومدافنهم وقد تعاظم اقتصاد تلك الحضارات وثرائها  في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا وازدهرت بسبب استعباد البشر من أسرى الحروب والمعدمين.بعدما أعلنت الثورة الفرنسية شعارها العتيد ( الحرية- المساواة – الاخاء)  ازداد تغوّل الدولة الفرنسية في اجتياح البلدان والغزو واحتلال مناطق شاسعة في افريقيا والشرق الاوسط وجنوب شرق آسيا وأميركا الوسطى ، بل أن شعار الثورة  العتيد لم يحُلْ بين فرنسا وبين أن تغدو دولة عدوانية في توسعها العسكري وإذلالها للشعوب المستعمرة في آسيا وافريقيا.وقد واجهت مفردة الحرية على امتداد التاريخ الإنساني التباسا وتضليلا  وتمويها في تأطير مؤداها وحدودها وخضعت لتأويلات نفعية وغالبا ما استخدمتها الإمبراطوريات الكبرى وهي تغزو بلدانا وتحتلها معلنة سعيها  لتحرير الانسان من قيوده بينما  كانت تمعن في إذلاله واستعباده.استخدم افلاطون في  كتابه الشهير "الجمهورية" نظاما قائما على التقسيم الطبقي للدولة: طبقة الحكام، طبقة الجيش، طبقة الصناع والعمال ومعظمهم من العبيد الأرقّاء ووقع في تناقض واضح بين موروثه الفلسفي ونظام دولته فالفلسفة الاغريقية كانت أول من بشر بفكرة الديموقراطية، وعمد الإسكندر الى نشر الثقافة الاغريقية بالقوة والارغام في الاصقاع  المحتلة واستعبد أعدادا هائلة من شعوبها  وانطوت الثقافة اليونانية في فترات الغزو والفتوحات على تكريس تام لتقديم الولاء المطلق من قبل الحشود المستعبدة للحاكم الإغريقي ومن يمثله ،وعندما هيمن الرومان على العالم القديم فرضوا اللغة والثقافة اللاتينية والعبودية على مستعمراتهم – مع احتفاء تلك اللغة والثقافة والفلسفة الرومانية في متونها المدونة بمفردة الحرية وضرورتها للحياة الانسانية، كما أن استخدام مفردة الحرية في ثقافات دول كبرى كأمريكا واعتبارها من اساسيات النظم الديموقراطية -لم يلزم  تلك الدول  بتعزيز فكرة الحرية  ففي عصر العولمة زالت الحدود بين الثقافات -إنما نهضت حدود متصلبة قسمت عالمنا الى خيّر وشرير فانفلت العنف وولد  الوحش المتغوّل ليجتاح عالمنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram