قبل اسابيع كتبت الصحافة الغربية ان المرجع الاعلى في النجف يحاول بوضوح دعم اعتدال سياسي في العراق يخفف او يقيد التشدد الشيعي المتمثل بحلفاء نوري المالكي وبعض الجماعات المسلحة المرتبطة بخط متشدد في طهران.
ثم طرحت الصحافة الغربية سؤالا: ان المرجع النجفي في محاولته لتقييد تدخلات ايران، قد يضطر ليتدخل في السياسة العراقية بنحو يجعل منه مرشدا مناظرا ومماثلا لسلطة الولي الفقيه في ايران، وهذا يعني "خلق نموذج ايراني في العراق".
ولعل مثل هذه الهواجس لعبت دورا في جعل النجف تقرر الجمعة الفائتة ان "تقتصد" في الكلام السياسي، لا لكي ترد على الاتهامات ولكن لكي تعيد الاعتبار لتقليد تاريخي ازعم ومعي كثيرون، انه يمثل روح الحوزة العلمية في النجف، وهو استقلالية المؤسسة الدينية الشيعية عن المؤسسة السياسية سواء في العراق او ايران او اي مكان اخر.
هناك كثيرون في النجف وحتى في قم التي يعلن معظم علمائها بوضوح، انهم يدعمون النجف، ضد سياسة الجناح المتشدد في طهران، لأن على المؤسسة الدينية ان تبقى غير خاضعة او مرتبطة بمؤسسات السياسة. لان الدول والحكومات تنهض وتسقط. اما من يمثل السلطة الروحية والاخلاقية فيجب ان لا يسقط في فخ الاخطاء السياسية، ولذلك حين تسقط المؤسسات الحكومية وتنهار الدول، تضطر مراكز القوى والروحية وحتى الفكرية والثقافية الى ان تتدخل لضبط مسارات المجتمع ودعم الاستقرار ومنع الفوضى.
وللسبب ذاته ذهب بعض المؤرخين الى محاولة تفسير الهجرة الشهيرة لعلماء اصفهان الى النجف في القرن ١٨، فقد غادروا اصفهان التي حكمها سلاطين صفويون وقاجار، وجاؤوا لائذين بأضرحة الاولياء والائمة في كربلاء والنجف، ليقوموا بحماية استقلالية السلطة الروحية، ولكي تبقى المؤسسة الدينية حتى لو سقط الملوك والسلاطين شيعة كانوا ام غير شيعة.
لكن هذا التوازن الحساس تعرض الى اختبار عسير مرات كثيرة، ولاسيما في اخر عشر سنوات عراقية، حين بدا ان الفوضى تتطلب التدخل، وكان التدخل محفوفا بالمخاطر، وكان الاتهام ان النجف دعمت طبقة سياسية فيها الكثير من الفاشلين، حتى لو كان هدف التدخل منع الفوضى.
وللمنتقدين للنجف ان يقولوا كلاما كثيرا في هذا الاطار، لكن علينا ان نتذكر شيئا. ففي مجتمع لم يحقق تقدما سياسيا ولم تدخله الحداثة، كانت السلطة التاريخية في النجف تدعم الحلول والتسويات ومنطق الحوار. لقد كانت العوائل الدينية التاريخية في مواقف كثيرة، اكثر حداثة وعمقا في الفهم، حتى من بعض ادعياء الحداثة، خصوصا وانها دعمت المسار العقلاني في العلاقة بين الطوائف، ورفضت القمع ومنطق الانفعال والتسرع، وسواء نجحت كثيرا او قليلا في هذا المسار، فان القوى التي توصف بانها دينية تقليدية تمكنت من رسم مسار واعد للتصالح كبديل عن الانفعال.
ولذلك فقد قام المتشددون بوصف الاعتدال النجفي بأنه "انبطاح" ونقص شجاعة. ولقد واجه الحكماء عبر التاريخ هذا الاتهام، بينما ندرك ان صناعة السلام والاستقرار تتطلب شجاعة اكبر بكثير من صناعة قرارات الحرب. ودوما كان انصار السلام متهمين بأنهم ناقصو شجاعة، لانهم دعموا التنازل المحسوب الضامن لمصالح الشعوب.
ان "الصوم الجزئي" للنجف في موضوع السياسة، يحمل رسالة كبيرة في هذا الاطار، فهو اولا يحمي مبدأ استقلال السلطة الروحية عن الحكومات واخطائها. وثانيا يقول بوضوح ان على الاحزاب ان تتحمل مسؤوليتها وتبدأ بتحريك الجمود السياسي والتلكؤ الاصلاحي. ولقد قالت المرجعية كلمتها وستبقى داعمة لاي قرارات اصلاحية شجاعة، شرط ان تكون هناك قرارات شجاعة.
ان دور النجف وسط صراخ المجانين، هو التذكير بأن العقلانية السياسية هي المنقذ الوحيد لمجتمع منقسم دمويا. وسنظل نحمل النجف هذه المسؤولية، التي تحتاج تقاربا بين السلطة الروحية ومراكز القوى الثقافية والفكرية، ففي الامم القوية يتوحد العقلاء لتخفيف جنون الساسة، وفي عراق مليء بالانفعال لن تنتهي مسؤولية من يؤمنون بأن الحل هو في تعزيز التعايش العميق، وطرد الاوهام القائلة بأن البنادق وحدها من تصنع الاستقرار.
صمت النجف
[post-views]
نشر في: 6 فبراير, 2016: 09:01 م