اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فوانيس بغداد

فوانيس بغداد

نشر في: 8 فبراير, 2016: 09:01 م

شوارع بغداد، ليلاً، مضيئة كلها. قلت لنفسي: إنها مدينة لا تكف عن الضوء،إذن!الجادرية، تحديداً، لافتة للانتباه، انتباهي، أنا الغريب القديم، العائد بلا أمل يذكر، لكن الكرادة أكثر دفئاً وحركة، رغم أن الناس أقل كثافة في الشارع الرئيس قياساً بزيارتي السابقة.. سألت فقيل لي: ربما بسبب البرد أوالإرهاب.سألتني ابنتى عبرالهاتف: متى تأخذني إلى بغداد؟اضطربت وعلي أن أوجز حتى لو مجاملة: عندما يكف العراقيون عن النظر إلى السافرات بعيون مريضة.حين يكتشف شخص، رجل أو امرأة، في أماكن لندن العامة، أنك تنظر إليه يتضايق ويدير وجهه. أو يسألك باستنكار: لماذا تنظر إلي؟ فهو يعد ذلك محاولة لاختراق خصوصيته.بغداد مضيئة بشمس دافئة نهاراً وبمصابيح الطرق العامة ليلاً، لكنني أحسست بأنني أسير وسط العتمة باحثاً عن فانوس صغير يخصني.. فانوس يضيء تلك العتمة التي تلفني أو تخرج من أحلامي.".. ويرتفعُ الدعاءُ كأنَّ كلَّ حناجرِ القصبِ من المستنقعاتِ تصيحُ لاهثةً من التعبِ
تؤوبُ إلهةُ الدمِ، خبزُ بابلَ، شمسُ آذارِ
ونحنُ نهيمُ، كالغرباءِ، من دارٍ إلى دارِ". (1)
السياب معنا، يتناول شايه باستكان عراقي في مقهى رضا علوان، حيث اجتماع المدنية والانتظار، لنستعيد معه تاريخاً شاسعاً من الاغتراب ومرارة معتقة لا تنفع معها مليون ملعقة سكر في شايك يا أبا غيلان.وإذ أحارُ بعتمتي التي تلفني أو تخرج من أحلامي أخدع نفسي بفوانيس بغداد الصغيرة، وإن كانت شحيحة الضوء.الفوانيس شحيحة الضوء لا بسببٍ من قصورها الذاتي، حسب، بل لأن العتمة عميقة، شاسعة، ضاربة الجذور.
"جياعُ نحن، مرتجفون في العتمة". (2)
فوانيس كابية على هيئة شبان يبيعون المحارم الورقية في ظهيرة شوارع تحترق.. شبان مثل الورد، تكاد بشرات وجوههم تكتسي باللون نفسه: زجاج فانوس يخنقه دخان فتيلة مطفأة.نساء يشحذن بشكل مهين يفطر القلب. لا تُفاجأ إذا صادفت بينهن أمك أو أختك أو عمتك أو جارتك.من أين آتي بالضوء للجياع المرتجفين في العتمة، يا بدر؟
"ونبحثُ عن يدٍ، في الليلِ، تطعمنا، تغطينا
ونبحث عنكِ في الظلماءِ، عن ثديينِ، عن حلمة
فيا مَنْ صدرُها الأفقُ الكبيرُ وثديُها الغيمة
سمعتِ نشيجَنا ورأيتِ كيفَ نموتُ.. فاسقينا!. (3)
فوانيس بغداد التي أضاءت، يوماً، بزيت من نوع نادر: دم أبنائها وحبر شعرائها وجرأة متكلميها ووثبات ثوّراها وأحلام حالميها، لم تعد على ذلك التوهج، فثمة صخب ولا كلام وخطى بلا منهج وعيون بلا بصيرة إلا في وجوه قليلة عبر رحلة التعب، وغياب روح التعاون حتى بين سائقي السيارات وكل يقود عربته كأن الشارع ملكه وحده، لكن سائق تاكسي، يعشق مظفر النواب، رفض أن يأخذ أجرته مني إلا بعد أن "رميتها" على المقعد عبر زجاج نافذة السيارة (كان أستاذا جامعياً) وثمة استشراء الذكورة الفاقعة وبقايا "الحملة الإيمانية" و"ثقافة الحصار" التي رسخت مبادئ ميكافيللي الكريهة، والخوف من المجهول والمعلوم معاً، وعطالة جيل كامل من الشبان وسياسة تربوية تقودها عقول أميّة، وفي قلب المشهد كله يكاد لا يقف الإنسان إلا على عكازات وإن بدا سليم البنية.اتحاد الكتاب والأدباء فانوس تنويري وسط حصار المتخلفين والطائفيين."بيتنا الثقافي" فانوس آخر يحتفي بالكلمة المبدعة.
الفرقة السمفونية العراقية ترفع ألحان الإنسان إلى سمائه الملبدة بالأغاني الهابطة.المسرح الوطني فانوس آخر وسط العتمة.فوانيس أخرى هنا وهناك تحاول إنتاج الضوء.شارع المتنبي وملحقاته فانوس بغدادي وحديقة القشلة "هايد بارك" عراقية تتدرب على الجملة المفيدة وقاعة دار "المدى" فانوس آخر يضيء، حيث ثمة ندوة ثقافية كل جمعة تقريباً.بغداد ليست بحاجة إلى فوانيس فقط، بل بحاجة إلى من يوقدها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram