أعترف بأني لم أتلق تدريبا عالياً في تذوق وسماع الموسيقى، وكل ما أقوم به أني أسمع وأشاهد ما ينصحني الأصدقاء بسماعه ومشاهدته منها، لكنني، أحبُّ الغناء وأُستفزُ، بل وأشعر بحاجة جسدي للرقص أحيانا، والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، عند سماعي لبعض الأعمال الموسيقية العالمية( شرقية او غربية، سيمفونيات، قطع موسيقية أخرى. وأخيرا، بدأت أميز بين أعمال الموسيقيين الكبار، وكثيرا ما وجدتني أصغي لقطع لفيفالدي مثلاً، أو أندريو ريو وكذلك لياني وسواهم. مع أني لا أفهم كثيرا من أعمال كبيرة لبتهوفن أو لباخ. وهنا لا أريد أن أتحدث عن أهمية الموسيقى، وما تفعله في الروح الآدمية، فهذا أمرٌ معلوم لدى الناس، إذ لم تعد الحياة عند بني الإنسان معقولة ومقبولة أو ممكنة حتى خارج الموسيقى وقاعات الرقص.
خلال سماعي ومشاهدتي للأعمال تلك، لا أفكر بأبعد من قاعة العرض، أجدني، أسير الأمكنة هذه، وتشغلني حركة العازفين، ثيابهم، آلاتهم الكثيرة، الإنارة، وتوزيع العازفين وجلوسهم او وقوف البعض منهم، النساء الجميلات اللواتي يمسكن بالكمنجات والآلات الموسيقية الأخرى، أذهب ببصري الى أبعد مكان في القاعة، فأجد المقاعد الأخيرة ساكنة، أناسها صامتون، وسوى من أنفاس تتقطع، مصغية، تهمس، سوى من حشد غفير من الرجال والنساء يتخذون مقاعدهم معاً، لا أبصر شيئاً، إذ لا شان لهؤلاء سوى التحليق والذوبان مع القطع الموسيقية الباذخة، التي تقشر الفرح والسعادات وتنثرها بين أرجاء القاعة. عوالم مثل هذه، هي ما يشغلني. بل أنا مأخوذ حد الجنون بسعي الناس هؤلاء، الذين يقطعون المسافات الطويلة صحبة بعضهم، وينفقون من أموالهم المبالغ الكبيرة، لشراء تذكرة الحجز، وكل آمالهم كانت متعلقة بروح الموسيقى التي لن يفرطوا بلحظات سماعها والتزود منها بجرعات لا غنى لهم عنها، حتى بدا لي أن الحياة بلا موسيقى وغناء شبه مستحيلة عندهم.
ولكي لا أذهب بعيداً فسأحتكم لعراقيتي، ومثل أي من رعاياي الوطن المبتلى بالقتلة واللصوص سألت نفسي، السؤال التقليدي: ترى ماذا كان سيحصل لنا، في العراق، منذ أن أسقطنا النظام الدكتاتوري إلى اليوم، لو أننا شيدنا بالأموال التي أنفقناها على بناء المساجد والحسينيات والمواكب ومقرات الأحزاب ومضايف الشيوخ والحمامات الوسخة التي على الشوارع والبنادق والرشاشات والمدافع ووو لو، أقول: لو بنينا قاعات لسماع الموسيقى؟ نعم، ولو اشترينا آلاف الآلات الموسيقية ومثلها من البذلات والقبعات والعطور والمصابيح الملونة ومقاعد الخيزران، لو اشترينا بربع المبالغ تلك كميات بسيطة من علب الألوان وفرش الرسم والكمنجات وأشرطة الحرير والموسلين وفرقناها على المدارس ورياض الأطفال، وجلبنا من العالم المتمدن المدربين والعازفين، وجعلنا روح الموسيقى ترفرف خفيضة على أسيجة المنازل وبين مقاعد الدرس في مدارس أطفالنا، وعند مداخل الحدائق العامة وفي مؤسساتنا، لو قامت الدولة العراقية بفرض درس الموسيقى على كل إدارات المدارس الرسمية والأهلية. أكنا وصلنا الى ما نحن عليه اليوم من إفلاس وخراب وضياع؟
سيأتي متشددُ، بعمامة بيضاء او سوداء أو بدون عمامة حتى ليقول لي: صه، يا طالب، أنت تسيئ لديننا ومعتقدنا ومذهبنا بذلك. أنت تجاهر بالفسق، الموسيقى حرام، والغناء من أعمال السوء، وهو ما لا يجتمع في قلب المؤمن مع ما في قلبه من الإيمان والنسك والخشوع. هل أجرؤ لأقول له: وهل يجتمع القتل والمال الحرام وخراب البلاد والأنفس وهتك الإعراض في قلب المؤمن يا ترى؟ سيقول لي: أرأيتهم كيف يترنحون ويميلون ويقبّلون بعضهم في القاعة؟ فأقول : نعم، رأيتهم، وهل مشهد الترنح والميل والقبل بأبشع عندك وعند الله من مشهد القتل والدم المسفوح على الاسفلت وسرقة المال العام وتخريب النفوس يا أخي؟ . أعلم أنه سيجيئني بعشرات الحجج والأحاديث والأمثال، لكنه لن يجد في جعبته مثالا واحداً يقول: بأن عازف الكمنجة هذه قتل صاحب الأورغ ذاك.
تعالوا نبني نفوسنا بالموسيقى
[post-views]
نشر في: 9 فبراير, 2016: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
كولالة نوري
نعم من حقك ..الاحلام تباع بالكيلومرتات .لكن بين حرب وحرب ضاعت الموسبقى من حياتنا .