لم يكن مجرد عرض تركيبي (أنستليشن) ،بل،انبثق ليكون تمرّداً،مُمقتاً لشهيّة الحرب وسُقومها الزقوم،كما جاء رفضاً وموقفاً ونبذاً لكل مخلّفات هِبات الخراب ونائبات الحروب... تناغيات أعمال ومسلات دموع وسخط .... تبنّت إحتضانه(مؤسسة برج بابل)...على خاصرة نهر د
لم يكن مجرد عرض تركيبي (أنستليشن) ،بل،انبثق ليكون تمرّداً،مُمقتاً لشهيّة الحرب وسُقومها الزقوم،كما جاء رفضاً وموقفاً ونبذاً لكل مخلّفات هِبات الخراب ونائبات الحروب...
تناغيات أعمال ومسلات دموع وسخط .... تبنّت إحتضانه(مؤسسة برج بابل)...على خاصرة نهر دجلة ... من جهة مِلاك شارع أبي نؤاس الشاحب من عقوق وبُخل الماره من عشاقه ... زلة زمان كان ... ولم يعد...(برج بابل) يتحّد وتصادمات هذه العواطف-العواصف ...عواصف (زينا سالم) بعواطف وعواصف حمى ما تحمل(نبراس هاشم) من وشم رفض فاجمٍ للموت... ومتوالياته ... في هبوب عرض تماسك بوهج لحظات بالغة الأسى وبراعة التعبير على مدار ثلاث ثنيات من أيام(يناير) كانون الثاني من جمرات أيامه برداً( 23 – 24 و25-)موقداً من شعلة دواخل وجدانيّة...عمّدت وهجها بسيل مشاعرٍ أشاعت فينا معنى الموت حين يكون متكرراً على هيئة لافتات تعاكس المألوف ... فتقف في اصطفاف إجباري- فضائي حُزن ومخيف ... لأفتئت لفتات أرواح غادرت وهجها ... ماتت جراء حروبٍ وفوضى وكانت بمثابة (قرابين)...
قرابين تُرّتل سيمفونيّة موت غامض بلا أسباب ... كما لو انها جاءت تنشد (كورالاً) جنائزياً ،يثق باللون والكتلة والفراغ والصوت والعتمة والنور لتقول مجتمعة ما قاله ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير ؛(سأقتل الموت).
نثني على جهد ووجع التشكيليتيّن (زينا)و(نبراس)وما بينهما ذاكرة العمل(صادق لازم حسن) وموثق العمل(مروان الأدهم) ولتقنيات فريق العمل وتنفيذه على هذا النحو المتمالك من لغة بلاغة التعبير ما يدعو للتأمل والتذكير:
بيان نبيل/كرم ثامر/ زهير النوري/ عمر دُبور/أسامة صادق/ ومصطفى غنّام
ومؤسسة برج بابل ..
هذا تقيم عام لمعرض وما هو بمعرض حمل عنوان (قرابين) مازج ما بين اللوحة كعمل فني وما بين التركيب القصدي لقيمة عمل تشكيلي يجسّد الرؤية ويسمعها،بل يتشممّها أيضا...
بحاصل جهد فريق عمل هذا النسق الحضاري الراقي في مقت الموت المجاني في عراق الحروب والندوب ذلك الذي رأيناه قبل أيام في بغداد على قاعة مؤسسة برج بابل.
كان لابد من مقدمة كاوية تداني فكرة الغرض والمسعى الذي دفع (زينا سالم) وهي فنانة أقامت العديد من المعارض الشخصية وشاركت بمعارض مشتركة،فضلاً عن كونها تعمل تدريسية في معهد الفنون الجميلة،كما أخذ بـ(نبراس هاشم)بعد عدة معارض في بغداد وباريس،للإقدام على هذه المغامرة عبر تداخل وتواشج عدة فنون سمعية-بصريّة في فضاء تشكيلي يعتمد على جوهر اللغز الثقافي والفكري الذي تنطوي عليه مقدرات تنظيمية وتضمينة تساعد على توسيع رقعة المشاركة ومديات البوح بأكثر من فعل وتحريض،حتى أن الواحدة منهن لم تكتف بترسيم حدود فكرة- وأعني أفكار-هذا المشروع المنبثق من أسس وتصورات تدنو من فعل التواصل والتقارب مع نتاجات وتحولات تتداخل فيها جملة متغيرات تلجأ إلى استخدام تقنيات ساندة مثل(الفيديو)و(الأنستليشن)،فقد تركت(زينا) نزف هذه الكلمات في دليل العرض لتقول للعالم ؛(عذراً ايتها الحمائم ... لم يعتد أولادنا اللعب) فيما كتبت (نبراس) بهمس موجع هذه العبارة؛(تُدمى الخطى بتسلق الجبال/ تختنق الأصوات/تشد الأبصار)،ليشكل هذا النص المكتوب إلى جانب اهداء جاء تحية إلى المجدّد في التشكيل العراقي الفنان (جواد سليم)،سلم توافق قصدي يلّوح لمدى الاستفادة من خواص العرض الأخرى الذي قد توفره البيئة (الفيزيقية)والبيئة النفسيّة للعمل بجوهره الخاص والمحكوم بجمع هذه العلائق والتوصيلات حين تبغي تحرير المنجز التشكيلي التقليدي من نمطياته السالفة والمعروفة وإبقاء الشرط البيئي تحت طائل نزعات وملكات يتم التفاعل والتنامي ما بينها،من خلال اللوذ بجملة مقترحات وتمهيدات تزيد من وهج و ألق تأثير كل ذلك التجانس الفني لصالح فكرة،أو مجموعة الأفكار التي تفاضل الكل على الجزء عبر صيغة ما يعرف بـ(الكَشتالت)أي التكامليّة،على وفق مبادئ تلك المدرسة الالمانيّة المعروفة بنهجها (السايكولوجي) في تعاملات فهمها وتحليلها لعناصر ووحدات السلوك الإنساني بشكل عام.
حفل عرض(قرابين)على توثيق حالات وجدانية،واستمالات إنسانيّة،بلغت قيمتها التحريضيّة على نصب مجالس عزاء جماعي يداري حزن ولوعة كل متواليات الحروب ومدافن ملحقاتها في قاعة مظلمة موشاة بسواد يعم كل المكان الذي راح يئن ويغلي بتعليق لافتات لقوافل شهداء مجهولي الأسماء وتحديد تواريخ يوم إستشهادهم،فقط هنالك توثيق يوشم سنة هذه الحرب أو تلك بأسماء قواطع الجبهة أو جهات حصلت بها كوارث هذا الموت المستمر دون أدنى طائلٍ أوتبريرٍ يسوّغ لها،أو يمنحها مشروطية خوض كل تلك الحروب،غير عَمى وطيش غايات مبُتكريها ومروّجيها وتُجارها ومزوّري حقائقها.
لقد عززّ هذا العرض بكامل ملاك وعي تناسقي مشترك،ما بين تفاهمات طاقم تقنيات مُنضبط من حيث تأثير المناخ العام في التنفيذ ومحايثات البُعد الدرامي،وما بين تجلّيات روح المُغامرة وسبل البحث عن مغايرة تأثريّة تتقصّد بث شحنات إضافية(صورة/صوت/حركة/تكرار لازمة/مؤثرات/وموحيات أخرى) تَشاخص فعلها في جوٍ مرير وقاتم،سعى لكي يزيد من أثر الفعل الدرامي وترصيف زحف خطواته نحو تلك الأبعاد وتعميق مسارات الصدمة والترويع،وخوالص ما تبثه شاشة(سكرين)وُضعت مقلوبة كما هي لافتات الموتى من الشهداء،لتحيي مفاد معنى المعادلات المقلوبة والموضوعة-قصداً-وتمهيداً لفكرة اختلال العالم،عبر زوايا النظر إليه من خلال خرم هذا التصوّر الواقعي من حيث قوة الدلالة،وتلويحات المشهد.
ان ما أعطى لهذا العرض بنسقه التركيبي سمة التأثير وسطوة الفعل الدرامي،هذا التوصيف مراس الفنانتين في مجال التلاقي والتدريس في معاهد الفن وكلياته،وقربهما من باقي عناصر الشد البصري،فقد سبق لـ(زينا)أن عملت في مجال المسرح كمصممة لمشاريع وأعمال مسرحية مع المخرج الراحل(محسن الشيخ)و(حامد خضر)وغيرهم من لوائح ومآثر التعبير بالجسد وإيماءاته وتحسساته الداخليّة والروحيّة،من خلال فهم مدلول الحركة وتأثير الصوت وتوزيع الإضاءة،كذلك يتقابل هذا الوعي التجسيد-تركيبي لدى(نبراس)التي اختط لها نسقاً ومراساً في مجال دراسة النحت إلى جانب دراستها الأكاديمية لفن الرسم وطرائق التدريس،ومثول تجربتها عبر مشاركة في أعمال معرض مشترك لعدد من التشكيليات في المركز الثقافي الفرنسي-قبل عامين- التي سعت بإزائها الانعتاق من قيد اللوحة ومألوفية تعليقها على الجدار،ففوّضت لها جهودها وصدق جرأتها تعليق عملها في أحد زوايا سقف قاعة العرض أياها.
من هنا ... نُحادد قيمة الجهد المدعوم بمقاصد جماليّة-فكريّة نهوض(قرابين)على هذا النحو من التجانس في الإخراج النهائي لعرض تساوقت فيه جدة الطرح وعمق المعنى ومهارة الرفض والتحريض،فأن للفن محافله ومتانة مواقفه في تلمس طبيعة النشوة المُعتّقة التي كان ينشدها السورياليون في تحطيم كوابح وحشة أحلامهم وكوابيسهم،بغية شفاعة الظفر بحلم مختار ومُتمنّى وقابل للتحقيق،على إعتبار الفن هو جوهر الوجه الأنصع للحبّ،و(أن علينا أن نكون صادقين بإزاء اللحظة النابضة باتجاه الحياة،وليس إزاء من نحب فقط)،كما تذهب إلى مثل هذا القول الكاتبة الإسبانيّة،المولودة في باريس من أم ألمانية(أناييس نن) في أحدى أوراق يومياتها الشهيرة.