رغم وسائله التي تبدو نافرة احيانا بل وحتى متطرفة ، يختلط عمل ( ازاد نانكلي) الفني بالحياة بشدة . وهو يصرّ على تذكيرنا بأن العمل الفني الجاد لا يتخلى عن مهمته الاكثـر حيوية وديمومة ، طرح اسئلة الحياة والفن وموقف الانسان من العالم ، اسئلة البداهات المت
رغم وسائله التي تبدو نافرة احيانا بل وحتى متطرفة ، يختلط عمل ( ازاد نانكلي) الفني بالحياة بشدة . وهو يصرّ على تذكيرنا بأن العمل الفني الجاد لا يتخلى عن مهمته الاكثـر حيوية وديمومة ، طرح اسئلة الحياة والفن وموقف الانسان من العالم ، اسئلة البداهات المتجددة ، الاسئلة الاولى التي كثيرا ما يمر بها دارسو الفن ونقاد الصحافة عندنا بالقليل من المبالاة كما لو ان طرحها ينفي عن المرء صفة الحداثة ومواكبة العصر وان التذكير بها يسبب حرجا والسؤال عنها حرجا اكبر.
هل يبدو الامر وكأن في فن آزاد ما يحفز على طرح اسئلة ( البداهة ) تلك ؟ ربما ، ففي لوحاته وانشاءاته عناصر اشكالية تجعل منها عينات تحمل في داخلها عنصر التحريض على التاْمل فيها . عندما احس بالاشياء تتداعى من حوله والحياة تسير في غير ما كان يحلم به كفنان شاب موهوب لدية الكثيرويعيش في درجة معقولة من اليسر، شعر بان جزءا من المسؤولية يقع عليه وربما احس بالذنب انه لم يستطع ايقاف الأذى الذي كان يلحق بالناس من حوله ، وجد نفسه في مفترق طرق في حياته العامة كإنسان شديد الحساسية للمحيط وللاخر .
ومع انه لم يكن بعيدا عن الفعل الاجتماعي والمشاركة في محاولات التغيير لكنه شعر ان مساهمته الكبرى لا تاتي من خارج اطار عمله الفني ، فاستغل هجرته الاجبارية الى اوروبا لبناء نفسه كفنان مستفيدا من موهبته الواضحة وقدرته على التعلم والفرصة الاوروبية المتاحة امامه ، وسعى بصبر وأناة على امتداد سنوات اغترابه الطويلة لبناء قدراته وتطوير ادواته عمليا ونظريا .
لكنه لم يكن يحلم بأن زيارة سريعة الى العراق سوف تعصف بكل ما بناه وستحيل اسس يقينه شكاً ، وطمأنينته هواجس مقلقة جعلته يقف أمام لوحته حائرا ومتسائلا ويضعها بدون تردد في امتحان قاس ، يقول ازاد: ( عندما عدت الى كردستان العراق وجدت الحرب الاهلية بين الاكراد على اشدها ، كانت مشاهد الاكراد النازحين على الحدود الايرانية والتركية شديدة الوطأة علي ، احسست ان لا نهاية لهذا العذاب والظلم ، " حرب الاخوان " هذه اصابتني بالاحباط ووضعتني في مأزق شديد احالني الى مآسي العالم ككل ووضع عملي الفني امام تحد كبير اوصلني الى الاقتناع بضرورة الاستعانه بوسائط ذات قدرة توصيل اعلى ومردود اكبر ، وسائط وتقنيات تعطيني اكثر من الرسم وتمنحني الاحساس بالمشاركة والدخول في المعترك) .
واذا كانت الاتجاهات الفنية الحديثة تسعى لتقريب الفنان من الارض والانغمار بالهم السياسي وممارسة الفن كفعل سياسة او في الطريق اليها فإن هذا الامر اسيء فهمه في كثير من الاحيان ، وادى سوء الفهم هذا الى الانزلاق بعيدا مع المركب السهل وخروج الفن عن الفكرة الاساسية باعتباره فنا ، وكأننا في محاولاتنا تطوير الفن انتهينا الى شيء اخر لا علاقة للفن به ، لكن ازاد الجبلي الحذر كان متيقظا للامر ( يتعامل الفنان الاوربي مع التكنولوجيا باعتبارها هدفا وجوهرا للعمل الفني ،- يقول ازاد - بينما اتعامل معها باعتبارها وسيطا باتجاه شيء اخر وذلك جزء من ادراكي خصوصيتي كفنان شرقي).
المتابع لفن ازاد في التسعينات لا بد وان يُفاجأ بشدة بالتحول الكبير او لنقل الانقلاب الذي شمل كل مسيرته الفنية ، حيث ان لوحاته ودأبه على العمل وافكاره عن الفن لم تكن تشي او تشير الى بذور الانقلاب الذي كان ينمو ويتأسس في مكان ما غير مرئي ، بين الفنان وذاته الدفينة .
هذه المنطقة من مسيرة ازاد الفنية كونت عنصر جذب لتناول تلك السيرة الحيوية من قبل اصدقائه والمتابعين لفنه عموما وممن كتبوا عنه ، ولا اجد في ذلك غرابة ، فأمامي عدد من الاصدقاء الفنانين ممن تحولوا او طوروا اهتماماتهم او انتقلوا بفنهم الى مسارات جديدة ، لكن الامر لم يخرج عن التطور الطبيعي والحراك المألوف عند الفنانين ، ربما لأن نذر هذه التحولات كانت موجودة ويمكن تلمسها عند هؤلاء الاصدقاء ، وكان خط سيرها ضمن حدود المنطق .
كان ازاد رساما تجريديا ناجحا ومحل اعجاب الاخرين وربما حسدهم ايضا بسبب براعته الاكاديمية وقدراته الكبيرة على اللعب باللون وموهبته غير المحدودة ، لكنه ترك كل هذا بلا مقدمات وبلا ندم ايضا ، مثل من قام بصورة مباغتة من رقدة هانئة ليكتشف هلعا ان الهدف الذي سعى اليه دائما انما يقع في الجهة المعاكسة تماما من حياته وعالمه ، ففي لحظة ما تفجر احساسه الذي كان ينمو بعيدا عن الانظار لكن ببطء وبصرامة بان اعماله التجريدية تختزن كمّا كبيرا من الجمال الذي لا يتناسب مع بشاعة الالم العارية في الحياة التي كانت تجري حوله، فاتجه الى جمال اخر هو جمال الحقيقة الصادمة .
تحول من ترف التجريد الباذخ الى زهد وتقشف الصورة المباشرة والتكوين المستفز الملتصق بالواقع الى الحد الذي لا يسمح احيانا بانسلال مباهج الرمز بين المسافة الفاصلة ، اذ لا مسافة فاصلة . ان ازاد التجريدي الطليق ضاق بحرية المعنى المفتوح على الاحتمالات وشاء لصوته حرية من نوع اخر تنطوي على طمانينة المعنى المحدد والخطاب ذي العنوان الواضح المضمون الوصول ، على ان ذلك لم يعن نمطية من نوع اخر او تكرارا لمسعى سابق ، وبالاخص لا يعني التخلي عن لعبة الفن ، فهو لم يلبس قفطان خطيب المنبر لكنه انحاز كليا او وهب نفسه لاحساسه المتأصل بمكابدة وألم الاخر.لم يتجه الى التكنولوجيا والفيديو والكومبيوتر مباشرة دون كد الدربة الاكاديمية الطويلة في الرسم ، كما يفعل كثيرون الان ، فيصبح ترك ما لا يعرفون امرا سهلا ، لكنه كمن ترك ثروة عمل جاهدا على جمعها او حقلا افنى سنوات طويلة من حياته في اصلاحة وزرعه حتى اثمرت شجراته ليكتشف ان حاجته ورغبته للوصول الى الاخرتتخطى حلاوة الثمار، فترك الحقل والاشجار . لعل الاتجاه نحو التجريد في سبعينات القرن الماضي في بلد كالعراق كان ينطوي على قدر ليس صغيرا من التحدي، كان اشبه باعلان الاستقلال واللا انتماء للسائد بين جماعات منقسمة على نفسها بحدة ، ولم يكن الفنان التجريدي يؤخذ على محمل الجد سوى في حالات قليلة استطاع فيها الفنان العبور بزورق الإحالة للدين والتصوف وكان الفنان ( الصالح ) هو الفنان المنتمي لحزب او جماعة سياسية ويتبع ايديولوجيا محددة ، والفنان الجيد هو الذي استطاع التوصل لوسائل معينة واساليب لتطويع رؤاه الفنية داخل قالب الايديولوجيا والباس لوحته او منحوتته مقاسا ولونا وشكلا محددة تتماشى مع المقولة السياسية والفكرة المصنوعة في مكان اخر خارج الفن وبعيدا عن الفنان ذاته ، وكان هذا النوع من السعي اشعارا بالانتماء الى الجماعة وتحقيق موقع ما بين صفوفها .اما اولئك الذين اختاروا الوقوف خارج المشهد السياسي والمصطرع العقائدي فكان عليهم تبرير افعالهم بصورة ما ، والا فسوف ينظر اليهم باعتبارهم عبثيين، او فاشلين ولا انسانيين ويفتقرون لروح التضحية والايثار وربما الوطنية ، الامر الذي سيقود احيانا الى كونهم خونة ومتآمرين عند الحاجة ، فكان موقف ازاد صعبا اذ لا اثر لعقيدة في لوحته ولا ملمح مباشرا للصراع ، لكنه موقف شجاع يشبه تحوله الاخير . يقول الراحل كامل شياع :
( ان هذا التغيير الاسلوبي عند ازاد هو ليس شكليا فقط وانما يشير الى انبثاق وعي جديد يتضمن معاني جديدة للتعبير تحيل الى افكار محددة متعلقة بمسؤولية الفنان ازاء العالم . هذا الوعي الجديد يتضمن مسعى انساني واضح باتجاه مواضيع كالهجرة مثلا والتنوع الثقافي والواقع غير المسبوق المتمثل بالعولمة . )
لا غزارة في انتاجه الجديد وهناك مسافة كبيرة نسبيا بين عمل واخر متروكة لانضاج التأمل ودراسة تفاصيل العمل بدقة تذكر بحرفة الصائغ التي يبدو معها وكأن مسارب العمل تضيق بالتفاصيل الدقيقة لكنها سرعان ما تجتمع لتنفتح على جزالة تعبيرية دافقة.تشكل موضوعات فقدان الهوية والهجرة والاقتلاع والحرب والبيئة مادة ازاد الاساسية ، وهو يعتقد ان الهجرة هي احدى الحقائق الكبرى التي ستقرر شكل العالم مستقبلا وهو يتابع احصائيات ودراسات ومختصين عن الموضوع تؤكد كلها انه لا يمكن ايقاف مد المهاجرين وكلما سدت الدول بابا فتح المهاجرون بابا وكلما منعوهم زادوا تدفقا ومواطن المستقبل هو مهاجر نسي اصله وعاداته وتاريخه او ما عادت تعني له الكثير واكتسب هوية اكثر اتساعا وشمولية ، وتلك كانت الفكرة التي تاسس عليها عمل الفيديو الذي اشترك فيه ازاد في الجناح العراقي في بينالة فينيسيا العام 2012 والذي جذب انتباه الجمهور والنقاد .في عمله الكبير ( الاقتلاع المستمر ) الثلاثي الابعاد والمكون من اثني عشر جزءا وضع ازاد اثني عشر رأسا هي كناية عن رأس الفنان نفسه في حقائب او صناديق تشبه التوابيت ينظر له من زوايا مختلفة تذكر بلقطات كاميرا تدور حول الحقيبة التي تسبح في عتمة لا ينيرها سوى الضوء المنبعث منها او من الرأس المقطوع ، والحقيبة جاهزة للانطلاق فما على المهاجر سوى اغلاق الغطاء وشد السيور او الاقفال والتوجه صوب المنفى الجديد ، على ان تعبير الوجه يبقى ثابتا ما بين الذهول والتأمل مع ابتسامة غامضة غير عابئة تشبه ابتسامة العارف بالامر كله .
تتسرب انفعالات ازاد وعواطفه عبر صلابة المادة متجاوزة ما ادعوه ( حاجز التقنية ) فعلى اختلاف الوسيط الذي يستعين به ؛ فيديو ، فوتوغراف ، كومبيوتر او اي مادة اخرى لا يستطيع سوى ان يترك بصمته الشخصية التي هي اداة تواصل سرية عميقة التاثير ينسى معها المتلقي شكل الوسيط وتعقيد ادائه وينصرف لتلقي شحنة عواطف الفنان وافكاره ، وازاد بذلك يواصل ارثا انسانيا كان مقتصرا على اللوحة التقليدية يتمثل في فراد تها وانتسابها الى فنان بعينه وحملها لسمته الخاصة .
في لوحة ( الشهادة ) المؤلفة من سبع قطع منفصلة من الفوتوغراف المشغول بالكومبيوتر– الشهادة من الشاهد وليس الشهيد – يزيل الفنان ما حول الشخص مشددا على ملامحه الشخصية وتقاطيع وجهه وتعابيره ولكنه في اللوحة الرئيسية الكبيرةالتي هي نسخة من صورة قديمة لرجال محاربين اكراد بينهم شخصيات معروفة وقادة كبار يزيل ملامح وجوههم ويدخل بينهم صورته الشخصية فيكون الوحيد الواضح الملامح .يقول كامل شياع عن ذلك العمل (ان القصد منه هو جعل الماضي حقيقة واقعة ، وطلب هوية مستحيلة في لحظات مجهولة من التاريخ وبين اشخاص اسطوريين) .ومع ان ادخال الصور الشخصية للفنانين في الموضوعات العامة امر كثير التكرار في الفن الاوروبي قديما وحديثا الا ان احدا من هؤلاء الفنانين لم يمح وجوه الاخرين ويترك وجهه الامر الذي جعل ازاد الشاهد الوحيد المعذب بمعرفته.