ما يجمع هذه الشخصيات الثلاثة أنها كانت ضحية الحرب الباردة التي كانت تدور رحاها بين قطبي العالم آنذاك، أعني الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية.
فقد أدى التدخل الأميركي في كل من ايران والعراق وتشيلي الى الإطاحة بثلاث تجارب وطنية، اتُهمت ظلما بالانخراط ضمن المعسكر الشيوعي آنذاك.
هؤلاء الزعماء الوطنيون، الذين شكلوا مثلثاً لمواجهة تداعيات الحرب العالمية الثانية على بلدانهم، تجمعهم "صدفة رقمية" أرخت لحقبة ذهبية في تاريخهم. فقد تمت الإطاحة برئيس الوزراء الايراني محمد مصدق عام 1953، ثم بعد ذلك بعقد تمت الاطاحة برئيس الحكومة العراقية آنذاك الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1963، وبعدها بعقد تمت تصفية الرئيس التشيلي سلفادور أليندي عام 1973.
مشترك سياسي آخر، يجمع هذا "المثلث الوطني" يتمثل بجنوح هؤلاء الى تبني سياسة تأميم الثروات النفطية، في ايران والعراق، وتأميم الصناعات وبرامج الزراعة الجمعية في تشيلي.
كتب الكثير عن تفاصيل التدخل الأميركي و CIA حصراً، للاطاحة بتجربتي مصدق وأليندي. فبحسب الوثائق المتاحة فإن السفارة الأميركية في طهران رتبت، خلال رئاسة ايزنهاور، عملية أطلق عليها اسم "اجاكس" لإزاحة الاول، وبعد ذلك بعقدين رصدت إدارة نيكسون 10 ملايين دولار للتخلص من شبح التمدد الاشتراكي الى حديقتها الخلفية في أميركا اللاتينية، وأنهت حكم سلفادور أليندي المنتخب ديمقراطيا.
خلافاً للتدخل في ايران وتشيلي، فإن الغموض مازال يلف الدور الأميركي في الاطاحة بأول نظام جمهوري شهده العراق، رغم التوجس المتبادل بين الجانبين والذي بلغ حد التلويح بتدخل عسكري حينها. فلا نملك وثيقة تاريخية تؤكد الدور الأميركي في انقلاب 8 شباط، سوى عبارة مقتضبة لعلي صالح السعدي، احد رموز البعث، مفادها انهم جاءوا للسلطة بقطار أميركي.
لكنّ هاني الفكيكي، القيادي المعروف في حزب البعث، يشير في كتابه "أوكار الهزيمة" الى دور ويليم ليكلاند، مساعد الملحق العسكري في بغداد والذي كان يوصف بأنه "خبير الانقلابات" في الشرق الاوسط، وعلاقته بأحداث شباط ورموز الانقلاب.
لا أريد لهذا العمود ان يتحوّل الى منصة لهجاء أميركا والغرب ودورهما في الإجهاز على حقبة وطنية مازال العراقيون يحتفظون لها بالكثير من الحنين. قطعا لا اريد أن يتحول المقال الى محكمة تدين عبدالكريم قاسم أو البعث وتحميلهم مسؤولية النفق المظلم الذي دخله العراق ذات انقلاب.
ما يهمني هو كيف تعاملنا، كعراقيين وكنخب سياسية، مع انقلاب شباط بوصفه حدثاً مفصلياً في تاريخنا المعاصر؟ وكيف أسهم ذلك في تدهور أوضاع البلاد حتى وصلت حافة التفتيت في أيامنا هذه.
للأسف اننا طيلة العقود الماضية، انشغلنا بتوثيق التفاصيل، والدفاع عن هذا الشخص، وإدانة تلك الجهة، ولم نبلور رؤية وطنية لتداعيات تلك الأحداث لاحقا.
انه من دواعي الأسى ان ننقسم كعراقيين، وحتى كنخب، في تقييم أحداث 14 تموز، و8 شباط، بين شاتم لعبدالكريم قاسم ومنتصر للعهد الملكي، وبين منتصر للعهد الجمهوري ومنتقص لما قبله. تحولت هذه الاحداث الى مناسبات سنوية لحفلات الشتم ومهرجانات الانقسام، واجترار الماضي.على الجانب الإيراني، تحولت ذكرى محمد مصدق الى احدى ركائز الحراك الوطني منذ اكثر من نصف قرن. فليس هناك في الطبقة السياسية الايرانية، بما في ذلك رجال الدين، من لا يفتخر بانجازات مصدق رغم علمانيته وميوله اليسارية. مازالت ايران الولي الفقيه تستعيد ذكراه، ومازالت النخب هناك، باصلاحييها ومتشدديها، تستذكر الدور الوطني لهذا الرجل، وبصماته الواضحة في حماية مقدرات الايرانيين.
كتب رفسنجاني، مؤخرا وبكل فخر، عن علاقته بمصدّق وكيف انه ساعد على نشر أول كتاب ألّفه وكان عن القضية الفلسطينية، وقيام مصدّق بشراء المئات من نسخه وتوزيعها على اصدقائه.
لقد أدت النهايات التراجيدية والدموية للثورات في العراق، الى ان يسيء العراقيون الظن بماضيهم ومستقبلهم خشية وقوع ما هو أسوأ. وهو ما حصل بالفعل منذ مقتل الملك الشاب.
عن الزعيم ومصدّق وسلفادور أليندي
[post-views]
نشر في: 12 فبراير, 2016: 09:01 م