في قريتنا كلب أشعث يتفرد عن ما حوله من حيوانات بحكمته التي لا يستهان بها ، يعاقرها كمدمن ينتشي العقل بها ووفاؤه ، تلك العملة النادرة التي يرفض المقامرة بها ما جعله مضرب الأمثال في القرية بأسرها. في وجاره المنعزل الذي افترشت أرضيته بنشارة الخشب
في قريتنا كلب أشعث يتفرد عن ما حوله من حيوانات بحكمته التي لا يستهان بها ، يعاقرها كمدمن ينتشي العقل بها ووفاؤه ، تلك العملة النادرة التي يرفض المقامرة بها ما جعله مضرب الأمثال في القرية بأسرها.
في وجاره المنعزل الذي افترشت أرضيته بنشارة الخشب الممتزجة ببعض حبات المطر المتسللة من بعض ثقوب ذلك السقف المتهرئ، لتضفي له رائحة الرطوبة المختلطة بالعفن ، بدأت الأفكار تسرح في مخيلته لتنسج له أفقا مضطرما بالمشاعر المضطربة عما يجب أن يكون عليه ذلك المستقبل المجهول، ليطرد شبح الملل الذي خيم على حياته ووسمها بطابع الرتابة والسكون.
لقد ضاق ذرعاً بكل ما يحيط به ... يشعر به مثل ذلك العفن الرطب الذي تسلل إليه من كل مكان، ويطوقه كتلك السلسلة المعدنية الصدئة التي التفت حول عنقه، ففي هذا المكان كل شيء يذكره بدونيته الحيوانية وبأنه ليس أكثر من كلب دائم اللهاث ربما تنتهي حياته يوما بالجرب.
في بواطن أفكاره صوت صار يدوي ويستحثه على ضرورة الرحيل، تلك الفكرة صارت تؤرقه ليلا وتستنزف وقته نهارا ، فبذل في سبيلها كل جهد ممكن، واجتاز اختبارات عدة، للحصول على هوية الإرتقاء تيسر له سبل السير بين الناس والتمتع بما للإنسان من حقوق متعارف عليها.
كل ما يفصله عن هذه المنّة الإنسانية هو توقيع بسيط يمنحه هذه السمة كما كان يعتقد ، لكنه أدرك بعد حين إن الأمر بحاجة للدخول في مساومات بانت بوادرها مع ذلك الشخص الذي أوكلت له مهمة ذلك التوقيع حيث علامات المكر المشوبة بنصف ابتسامة جوفاء تعلو وجه ذلك الرجل الأنيق ذي النظارة السوداء المعتمة مفصحة عن نية مخبأة في سريرته المنطوية على الغدر على ما يبدو، أفصحت عنها تلك الكلمات الوقحة الصادرة همساً فلم ينفع معها التزويق المتقصد من لدنه، كي لا يبدو مكشوفاً في مبتغاه المستتر لإيقاع الكلب بذلك الإغراء ما جعل الأشعث يستشيط غضباً وهو يسمعها تردد عليه همساً لكنه شعر بها كدوي رعد هادر يصم الآذان ، فاستنهضت فيه طبيعته الحيوانية الكامنة - كما نصفها أو توصف - فراح منقضاً على ذلك الرجل الأنيق لولا تدخل الناس الذين هموا بضرب الكلب المفترس ففر هارباً لاهثاً لا يلوي على شيء ،سوى التواري عن مديات أفكار ذلك المجتمع يحمل أوراقه التي تطايرت يميناً ويساراً فحانت منه التفاتة عجلى وكأنه يودع تلك الأوراق إلى الأبد عائداً إلى وجاره يتوسد الرطوبة والعفن الذي اعتاده ، يحملق بعينيه نحو السقف الرث كأنه يحدث تلك الثقوب فيقول لها:
- لا بأس بك أيتها الثقوب ما دمتِ تسمحين بين الفينة والأخرى بتدفق أشعة الشمس الدافئة ..
مدركاً بشكلٍ قاطع ولا يقبل الشك ان البقاء في ذلك الوجار على ما هو عليه أفضل بكثير من أن يبيع وطنه بطلب الخيانة من ذاك المتأنق المستتر.