TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة: خاتم وخاتمة

قصة قصيرة: خاتم وخاتمة

نشر في: 15 فبراير, 2016: 12:01 ص

إنّ ما أحسّهُ اليوم من ألم يكاد يقضي علي أو يتركني جثةً فحسب ,جثةٌ تسمعُ أنغام حشرجاتها. وأحسُّ بقواي تنضّب وأن عظامي مفرطةٌ في الهشاشة وبشيءٍ ثقيل يجثم على صدري. والشمس ,عندما تهبط أشعتُها الدافئة على وسادتي ,من خلال النافذة , تشعرني بوهج الحياة ونق

إنّ ما أحسّهُ اليوم من ألم يكاد يقضي علي أو يتركني جثةً فحسب ,جثةٌ تسمعُ أنغام حشرجاتها. وأحسُّ بقواي تنضّب وأن عظامي مفرطةٌ في الهشاشة وبشيءٍ ثقيل يجثم على صدري. والشمس ,عندما تهبط أشعتُها الدافئة على وسادتي ,من خلال النافذة , تشعرني بوهج الحياة ونقائها الزائف. تلك الحياة التي لم تعُد تروقني البتة ,بُعيدَ الحفلة ليلة أمس. ولا أدري كيف وصلت إلى هذا الفراش! ...إن رأسي تؤلمني بشدة ولستُ في حالةٍ تسمحُ لي أن أتذكر كل شيء بدقة ,مما حدث في الحفلة...وأمي غائبة! ...أنا وحدي...حدث كل شيء كمثلِ كابوسٍ مروع!
ماذا أقول؟ ...إنه لمن الصعبِ جداً أن ينكأ المرء جراحه ,جراحاً قريبة العهد. لكن ,لا بدّ من ذلك! ربما لكي أحصل على تفسيرٍ منطقي والذي أعوّل عليه في تخفيف وطأة الألم.
يوم أمس كنت أحتسي الشاي بصُحبةِ أمي في البيت قرابة الساعة الثالثة بعد الظهر. وكنّا منهمكين في حديثٍ شيق عن الأيام الخوالي والأخلاق الحميدة. كان الشاي الدافئ الذي ينسكبُ إلى أعماقنا مع جرعاتٍ لذيذة من الذكريات ينسياننا الصقيع المتربّصِ بنا. كانت السماء تمطرُ بسخاء ,وريح عاتية تزمجر بفرح ,بعد أن قطعت سلك الكهرباء الذي يغذّي بيتنا والذي إن لم ينقطع من الريح تهاوى على الأرض لوحده!
فكان البيت شبه مُظلم. وبينما كنّا نتحادث رنّ الهاتف...كانت سارا على الخط. كان في صوتها رنةُ أسى لكنني لم أسألها عن ذلك من فرطِ سعادتي بما قالت ,أو بالأحرى لم تترك لي فسُحةً لكي أضيف شيئاً إلى كلامها. فما أن سمِعَت أنفاسي حتى قالت:
- اشتري الخاتم ,تعرف القياس, وتعال إلينا بصُحبةِ أُمك في الغد ,والداي ينتظرانكما عند الساعة الثامنة.
قالت ذلك وأطبقت السماعة. ومع أن النشوة اعتمرت في نفسي وغمرتني سعادةٌ جليلة ,ظللت برهة من الزمن جامداً في مكاني كالصنم مظلم الوجه. امتزجت في دخيلتي شتى أنواع العواطف. لكن أمي بصوتها الدافئ والغاضب هتفت تسألني:
- سامر...سامر...ما خطبُك؟
فاقتربت منها ورحتُ الثم وجهها الجميل و يديها المتعبتين بشغف , ودون أن أغفل عن احتضانها بحرارة.  فأبعدتني قليلاً ورمقتني بنظرة استطلاع وكانت عيناها تبرقان بريقاً لطيفاً دافئاً ,ثم كررت السؤال بصيغةٍ أخرى قائلة:
- ألن تقول ما بك؟
- كانت سارا على الخط.
- وماذا يعني ذلك؟ فكل يوم تتصل بك أو تتصل بها!
فاحتضنتها مرة أخرى و رحتُ أنقل إليها كلام سارا نقلاً حرفياً دقيقاً ,دون أي زيادة أو نقصان. ومع أنها لم تكن تحبُّ سارا على الاطلاق ,لأمرٍ ما أجهله تمام الجهل ,باركتني بقبلةٍ حنونة وأعقبتها بقراءة الفاتحة وهي تتضرع إلى السماء وتدعو لي الخير دعوةً بعد دعوة.
وكان الغدُ يلوح لي بعيداً جداً. ثم أنّ قلبي يخفق اخفاقاً شديداً. فلم أستطع منع نفسي عن الخروج من البيت. ولم أعبئ بتحذيرات أمي عن برودة الطقس وبخوفها من أن أُصاب بالحمى. وعندما رأت اصراري الشديد على الخروج , أذعنت المسكينة ومدتني بمعطفٍ سميك من الجلد ووشاحٍ من نسج يديها. ولم أكن اشعر ولو بقليل من البرودة. فإن قلبي الملتهب كموقدٍ متأجج يحملني على الاعتقاد بأن الفصل هو الصيف وإن الطقس يخدعني ليحول دون خروجي.
خرجت. وقد كان المطر ما يزال غزيراً ,وكنتُ أحسهُ ناعماً كندف الثلج ودافئاً كالقطن الجزراوي. وكانت السماء الشاحبة ,المتلبدة بالغيوم ,تلوح لي صافية زاهية. كل شيء بدا لي بهيئةٍ جديدة. فكان الرصيف يبدو نظيفاً تتناثر عليه أزهار الكرز واللوز في لوحةٍ ربيعية. نسيتُ الشتاء. لم أكن أصدق أن أحُسَّ كل هذه السعادة دُفعةً واحدة. ولا داعٍ لئن أُصدق ,حسبي السعادة فحسب.
مررتُ بجميع أحياء الأشرفية ,إلى أن وصلتُ شارع الصاغة. فعرجت على أحد الصائغين واقتنيتُ خاتماً. كنتُ قد نويتُ شراء الخاتم صباح الغد ,لكن هذا ما حدث. دفعتُ ثمن الخاتم وخرجت. وقد ظل بحوزتي من المال زهاء الخمسمئة ليرة. لا تكفي لشيء. ظللت قرابة الربع ساعة أتأمل الخاتم شارد الذهن. وقد خطر لي أن اقترض المال من أحد الأصدقاء وسرعان ما أرجئتُ كل شيء إلى الغد. وقفلت راجعاً إلى البيت و وصلت في الساعة السادسة و النصف. كنت قد أنفقت قرابة ثلاث ساعات في الأزقة دون أن أحس. فاستقبلتني أمي ببشاشتها المعهودة وكلامها اللطيف والودود. كانت تحمل ظرفاً سميكاً ,أملساً وبراقاً, من ذلك الطراز الذي يُستخدم كبطاقة دعوة لحفلة زفاف أو خطوبة.  فضضت الظرف على عجل ,فكان في داخلها بطاقة مكتوبة بخط أنيق ,وتبدو غالية الثمن. ربما ثلاثةٌ منها تساوي خاتماً. وكانت الكتابة مقتضبة.
((نتشرف بدعوتكم إلى حفل زفاف رامي الناصر. يوم الجمعة 4/1 في تمام الساعة الثامنة /صالة الأمراء))
أ. الناصر
لم أكن أعرفُ هذه العائلة وأمي كذلك لم تسمع بهذا الاسم. وقد كانت الحفلة في تاريخ اليوم وبعد ساعة. ولم تكن الصالة بعيدة كثيراً. وقلتُ في دخيلة نفسي:
- لا ضير في ذلك , وماذا يمنع أن أُتوج سعادتي بحفلة؟
ارتأيت أنه من الأفضل أن أذهب وإن لم تكن ثمة معرفة بيننا ,حسبيَ أنهم يعرفوننا. وإنه ليس من اللائق أن أرفض. لكن أمي رفضت أن تذهب فذهبتُ وحدي. وصلت الصالة في الثامنة تماماً. كان الجميع غرباء لم أعرف أحداً منهم. والعروسان لم يحضرا بعد. ندمت قليلاً من قدومي. لم يعرفني أحد وكان الجميع من ذوي الثياب الثمينة فقد كان ذلك متجلياً لي منذ الوهلة الأولى. وكان كل شيء فاخراً. الموائد عامرة بأشهى الأطعمة والمشروبات. وكان ثمة نبيذ أحمر على الموائد. ورحتُ أتأمل الطبق والملعقة والسكين أمامي بنفاد صبر. هممت أن أذهب لكنني وثبتُ إلى مقعدي بعد أن سمعت الموسيقى تصدح. ثم دخلت فرقةٌ شعبية ترقص على أنغام الزفة. وأعجبني رقصهم كثيراً. كانوا منسجمين تماماً. وكانت أثوابهم على الطراز الحمصي في القرن التاسع عشر. ولم تدم الرقصة أكثر من خمس دقائق وانتهت. ثم ...ثم رأيتُ والدا سارا يدخلان فخُيّلَ إلي أن الدعوة كانت من طرفهما. لكن ما الصلة التي تربطهما بهذه العائلة!
ثم أتضح كل شيء. فقد دخل العروسان. كانا يقتربان ببطء ومع كل خطوة يزدادُ اضطرابي ويخفق قلبي ويكاد ينخلع من مكانه ,كمن يواجه الموت بغتة. لم أستطع أن أشيح بنظري عن العروس. فقد كنت أنجذبُ إليها دونما سبب. وكلما اقتربت انتقل الاضطراب من نفسي إلى ارتعاشٍ شديد في جسدي. كامل جسدي. كنت أعرف العروس جيداً! بل هي أكثر من معرفة. وأخرُ شيء أذكرهُ في تلك الليلة أننيّ قلت أسماً.أحسست بحنجرتي تتفتق عندما صرخت: سارا!!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة
عام

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة

حاوره/ القسم الثقافيولد المترجم عباس المفرجي بمنطقة العباسية في كرادة مريم في بغداد، والتي اكمل فيها دراسته الأولية فيها، ثم درس الاقتصاد في جامعة الموصل، نشر مقالاته في جرية الجمهورية، ومجلة الف باء، قبل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram