كم من الوقت، وكم من التجارب يحتاج السيد حيدر العبادي ليتيقّن أو يزداد يقيناً بأن خيارات الإصلاح والتغيير تتناقض بنيوياً مع آليات العملية السياسية والتوافقات الكُتلية القائمة؟ ومتى سيتنبّه إلى أنّ التجربة التي يخوضها بأدوات هذه العملية وبمفاهيمه
كم من الوقت، وكم من التجارب يحتاج السيد حيدر العبادي ليتيقّن أو يزداد يقيناً بأن خيارات الإصلاح والتغيير تتناقض بنيوياً مع آليات العملية السياسية والتوافقات الكُتلية القائمة؟ ومتى سيتنبّه إلى أنّ التجربة التي يخوضها بأدوات هذه العملية وبمفاهيمها، ليست السبب في تعطيل مفعول حزمه الإصلاحية وإجهاضها فحسب، بل قد تودي بدوره السياسي وتجرّده من إمكانية البقاء في موقعه؟
.. هذا ما بدا يلوح من مواقف وتصريحاتٍ لقوى نافذة في التحالف الوطني ردّاً على إعلانه إجراء تعديلٍ وزاري أو تشكيلةٍ حكومية جديدة تتجاوز المحاصصة وتعتمد الكفاءة والخبرة من بين التكنوقراط غير المعروفين بانتماءٍ حزبي.
ومما يَحيّرُ المراقب، وهو يتابع خطوات رئيس مجلس الوزراء ومواقفه المعلنة، ما تنطوي عليه من تناقضات وتقاطعاتٍ مع ما هي عليه المنظومة السياسية من مفاهيم وقيمٍ وأدواتٍ تتحرك على أرضية مصالح متداخلة ومترابطة عضوياً. ولا يفوت من يعرف طبيعة هذه المنظومة والقوى المتسيّدة في الحياة السياسية، أن رئيس مجلس الوزراء يدرك أنّ من الاستحالة بمكان المضي بالاعتماد على الآليات والأدوات المستندة إليها العملية السياسية في إجراء أي إصلاحٍ أو تغييرٍ جذري من شأنه إخراج البلاد من أزمتها المتفاقمة وإرساء إسسٍ ديمقراطية ماكِنَة توقف التدهور، وتؤسس لمرحلة جديدة تلغي المحاصصة، من دون أن تعطّل أدوار قواها أو تحول دون مشاركتها النشطة في الحياة السياسية وفي إدارة الدولة بالوسائل الديمقراطية وبالاستناد إلى الدستور. شرط أن يكون ذلك بعيداً عن آليات المحاصصة وخارج دائرتها المغلقة.
وإذا كان لابد من الأخذ بما هو عليه الواقع السياسي الراهن، وضرورة تعبئة القوى إلى جانب ما يُراد من تغيير وتجاوز للمفاهيم المكرّسة، فمن الممكن تنشيط إحدى الأدوات الفعالة للنظام الديمقراطي "مُكيّفاً "على أوضاعنا الملموسة والمتمثِّلة بالتشاور والحوار والاستقطاب الإيجابي مع الكتل، ليس على وفق تجاذبات التحاصص. واعتماد مثل هذه الأداة بكفاءة وتفاعل قد يدفع أوساطاً وقوى حيوية من داخل المنظومة القائمة ومن خارجها، للانضمام إلى القوى الطامحة لإجراء انعطافة جذرية في الوضع السياسي، تتجدد من خلالها الآمال ببناء العراق الجديد الذي جرى إجهاضه بمفاهيم وقيم المحاصصة الطائفية.
ويقتضي مثل هذا التشاور والحوار والتفاعل وضوحاً في الرؤية والأهداف. وليس ذلك ممكناً بلا برنامج عملٍ وطني شامل يُطرح على الرأي العام في مختلف الوسائل، يستهدف التدرّج على وفق أولويات تشرع بنزع الألغام التي كانت في أساس العملية السياسية، ويعيد الاعتبار للمواطنة والمساواة وللقانون والفرص المتكافئة ويكرّس الحريات في إطار الدولة المدنية الديمقراطية.
إنّ التلكؤ والتردد وأنصاف الحلول التي اتّسمت بها عملية الإصلاح والتدابير والحلول الحكومية غير الناضجة، خلقت مناخاً من الريبة وفقدان الأمل بين صفوف الداعين للإصلاح، وشجعت المتربّصين بها ممن انكمش وتراجع أمام الحراك الشعبي وتصاعد الدعم المحلي والخارجي للإصلاح.
ويبدو واضحاً الآن أنّ العبادي قد فقد الموقع المريح الذي كان يتحرك منه لإعلان حُزمه الإصلاحية، وصار لزاماًعليه لكي يعيد استقطاب قوى فعالة في المجتمع والحياة السياسية، الشروع بـ "إعلان نوايا" يشكل جوهر برنامجه واصطفاء فريق عمل سياسي من بين الخبرات والكفاءات المجرَّبة غير الملوثة بالفساد. لكن عليه أيضاً، في مقاربة مع ذلك، التخلّي عن تردده وارتهان إرادته لِمُسلّماتٍ سياسية تشكل هوية أطرافٍ وقوىً ليست في وارد دعم أي نزوع إصلاحي، لأنه يتناقض جوهرياً مع مصالحها ومغانمها وأهدافها القريبة والبعيدة .
لقد كان على السيد العبادي أن يبدأ بإعلان نواياه برنامجياً، مصاغاً بما يستقطب أوسع قوى تنحاز إليه. كما كان عليه أن يصطفي فريق عمله الذي يؤشر بوضوح الى قسمات هويته، ويقوّي من شكيمة أنصاره ويشيع الثقة بين مَن أدركتهم الخيبة وأنهكت قواهم شهورالتظاهر والحراك الجماهيري المطالِبة بالإصلاح الجذري"المرتدّة" عليهم سلباً، على أن يترافق مع ذلك إجراء مشاوراتٍ معمّقة حول الأهداف والوسائل والأدوات، قبل الإقدام على "إعلانٍ قاصر" بالتوجه لتشكيل حكومة تكنوقراط غير موصوفة ،ولا معروفة سياقات اختيارها..
لم يفت الوقت بعد، والمطلوب استكمال ما هو ناقص من تحضيرات، والبحث في ما هو ممكن من وسائل سياسية لعزل القوى رافضة التغيير.
من جديد يتطلب هذا: فريق عمل كفوءاً ونزيهاً، وبرنامجاً وطنياً شاملاً، وحواراً مجتمعياً غير مسبوق، والخروج الآمن من دائرة المسلّمات.