يميل المخرج الأميركي جي جونروي ألاني إلى الثقافة الشرقية المتنوعة التي ينهل منها ثيمات أفلامه الروائية اللافتة للأنظار. ويكفي أن نشير إلى فيلمه السابق "ديفيد وليلى" الذي يحضّ بطريقة غير مباشرة على التعايش بين الديانتين الإسلامية واليهودية من خلال آصر
يميل المخرج الأميركي جي جونروي ألاني إلى الثقافة الشرقية المتنوعة التي ينهل منها ثيمات أفلامه الروائية اللافتة للأنظار. ويكفي أن نشير إلى فيلمه السابق "ديفيد وليلى" الذي يحضّ بطريقة غير مباشرة على التعايش بين الديانتين الإسلامية واليهودية من خلال آصرة الحُب التي تربط بين العاشقَين "المنحوسَين" اللذين يُذكران المُشاهد الكريم بقصة روميو وجوليت، وقيس وليلى وما إلى ذلك من قصص حُب خرجت من إطارها المحلي إلى الفضاء الكوني الأرحب.
في فيلم "ماوراء الفردوس" تتجاور الديانات الثلاث، اليهودية، والمسيحية، والإسلام من خلال الشخصيات الرئيسة التي تتشظى مشاعرها العاطفية وتستجيب للعاشق أو للمعشوق من دون السقوط في خانق التوترات الدينية أو العرقية أو المذهبية. فشهرزاد،الإيرانية المسلمة تزوجت من شون "ماكس أميني" زيجة مُدبّرة، ثم هربت منه لتلوذ بالبُستاني الإسباني المسيحي سباستيان "رايَن غوزمان" ولم تجد غضاضة في الارتباط به لأنها استمعت جيداً إلى نداء قلبها، مثلما أصغى هو الآخر إلى الصوت الصادر من أعماقه وكان يحثّهُ على الارتباط بها على الرغم من العلاقة العاطفية التي كانت تربطه بمعلمة الموسيقى اليهودية إيلانا "دفني زونيغا" التي كان يفتك بها مرض السرطان ولن يمهلها طويلاً بعد أن بلغ مرحلة متقدمة لا تتيحُ مجالاً لإيقافه أو الانتصار عليه.
لا تقل الثيمة الثانية، التي تقوم عليها بنية الفيلم المعمارية أهمية عن سابقتها، فهي تنتقد النظام الثيوقراطي القمعي في إيران ولعل الحادثة الأليمة التي وقعت لشهرزاد في طهران تكفي لتسليط الضوء على الرعب المتواصل الذي تعيشه المرأة الإيرانية الفنانة على وجه التحديد. فشهرزاد كانت طالبة موسيقى موهوبة جداً، وهي تعزف وتغني في الوقت ذاته، لكن العزف والغناء ممنوعان في الأماكن العامة. وقد رأينا ثلة من الشباب الإيرانيين الذين كانوا يطاردون شهرزاد وفتاة أخرى قد تكون فنانة أيضا أو "مُنتهِكة" للأعراف والتقاليد التي تحدّ من حرية المرأة الإيرانية. فقد تعرضت الفتاة لضرب مبرِّح بالأيدي والأرجل والهراوات ، وحينما حاولت شهرزاد انقاذها سكب أحدهم على صدرها حامض الأسيد ليشّوه نهدها الأيسر الذي سوف يشكِّل لها عقدة دائمية لا تستطيع البوح بها لكلا الشخصين اللذين أحباها إلاّ بعد العديد من المواقف المحرجة.
تنتقد شهرزاد النظام الإيراني الذي يقمع المواطنين، وتصفه "بالسجن الكبير المفتوح الذي يتحكم فيه القائد حيث يتحدث الجميع بنفس الطريقة" لذلك تغادر إيران إلى لوس أنجليس، أكبر مدن كاليفورنيا، وتستقر مع زوجها شون، الكوميدي الذي يقدّم عروضا ناجحة لكنه لما يزل مرتبطا بصديقته الأميركية التي سوف تدفع شهرزاد من دون قصد إلى التخلي عن زوجها والهروب مع صديقها الجديد سباستيان الذي يحبها بعمق، ويلتقي معها في مساحة مشتركة ومهمة وهي حُب الشعر فهي تحب الشاعر جلال الدين الرومي وهو متعلّق بقصائد لوركا. كما أنه منقطع لها وإن كان مرتبطًا بصديقته إيلانا التي تعرف أن عمر علاقتها بسباستيان قصير ذلك لأن المرض قد وضع حداً واضح لرحيلها الذي لن يتأخر كثيرا كي تستريح في أبديتها.
يتمحور الجانب الثالث من الفيلم على شغف الحبيبين شهرزاد وسباستيان بالشعر والموسيقى والغناء وقد لعبت قصائد جلال الدين الرومي ولوركا دورا كبيرا في تعميق هذا الحب المُشتعل الذي أفضى بالطرفين إلى محاولة الهروب التي لم تنجح. فـ "رَي" الشقيق الأصغر لشون كان يراقب تحركات شهرزاد ولقاءاتها المثيرة للشك والريبة مع سباستيان حتى أنه سألها ذات مرة إن كانت تُحب شقيقه شون أم لا لأنه رآها غير مرة في أوضاع حرجة تنتهك أصول العلاقة الزوجية سواء أكانت أوروبية أم شرقية؟ فهي لا تتردد من لمسه أو تقبيله قبل الكشف عن ارتباطها بشون أو بعده. كانت شكوك رَي في محلها وحينما تابعهما في المشهد الأخير من الفيلم وأراد أن يخيف سباستيان حينما أطلق النار في الهواء لكن الرصاصة أصابت منه مقتلاً فسقط من قمة الجبل العالي إلى حافة المحيط الصخرية. وبسبب حيها وإخلاصها الشديد تلقي شهرزاد بنفسها وتلتحق به في عالمه الأبدي لأنه لم يعد هناك من معنى لحياتها بدونه كما يذهب الرومي الذي تحب أشعاره أو لوركا الذي يحب سباستيان أشعاره. فالرومي يقول في إحدى قصائده "مِن بعدكِ، دعي الغبار يغطي العالم" أو "لا تُظهري جمالكِ من دوني". أما لوركا فقد كان مفتونا بالأخضر حيث كان يردد كثيرا: "كيفَ أحبكَ أيها الأخضر" هذا إضافة إلى العديد من القصائد الجميلة المُعبِّرة التي سمعناها على مدار الفيلم.
يحزن سباستيان لأنّ والدته تموت دون أن يتمكن منذ الذهاب إليها، فيما ينتهي هو إلى مصير مفجع سوف يتفاقم حينما تضع شهرزاد أيضا حدا لحياتها. تحفل قصة الفيلم التي كتبها المخرج نفسه بالموت فأم شون تموت لأنها اكتشفت ارتباط شهرزاد بالبستاني سباستيان وهي تعتقد أن هذا الأخير يمكن أن يتخلى عنها خصوصا إذا عرف بالتشوّه الذي أحدثه الأسيد في صدرها لكنها تنكر هذه العلاقة التي باتت مكشوفة للعائلة برمتها ولمعلمة الموسيقى إيلانا التي فقدت أعصابها أول الأمر ثم طلبت من سباستيان أن يتزوج شهرزاد لأن "الحياة هبة، وأن الشباب هو السحر الكامن فيها".
لا يستطيع هذا الفيلم أن يتفادى الشخصية الشرقية، فعلى الرغم من أن "شون" يعيش في لوس أنجليس لكنه ما يزال مدججا بقيمه الشرقية التي ترفض ارتباط زوجته بصديق آخر أو إقامة أي نوع من العلاقة التي تنتهك المفاهيم الأخلاقية التي تربّى عليها في إيران لذلك يطرد سباستيان ويستغني عن خدماته في تشذيب حديقة المنزل. كما أنه يصفع شهرزاد الأمر الذي يدفعها للتهديد بالاتصال بالشرطة، فضرب الزوجة والأولاد تحديدا ممنوع في أميركا وسائر البلدان الأوروبية ويحاسب عليه القانون بعقوبات قاسية.
لا يغفل الفيلم عن قسوة إيران بوصفها حكومة قامعة لا تتورع ليس عن ضرب النساء وإنما عن قتلهن في الشوارع والساحات العامة حيث أفاد المخرج من حادثة اغتيال طالبة الفلسفة ندا آغا سلطان على يد عناصر الباسيج في أثناء الاحتجاجات التي تلت الانتخابات الرئاسية عام 2009.
تستحق معظم شخصيات الفيلم الإشادة وخصوصا التي تقاسمت أدوار البطولة بدءا من ماكس أميني، مرورا بالأميركية ذات الأصول المكسيكية- الهندوراسية فرانسيا ريسا التي بدت وكأنها فعلاً إيرانية تعلمت اللغة الإنكليزية بلَكنة فارسية، كما أن إجادتها للرقص والغناء الفارسيين قد قرّباها كثيرا من المتلقين الشرقيين. أما الممثل الأميركي رايَن غوزمان فقد تألق في أدائه السلس الذي يَصعُب أن يلمس فيه المُشاهد أي نوع من الافتعال أو الهشاشة الأدائية، آخذين بنظر الاعتبار أن الفيلم يتوفر على روح شعرية عالية عزّزتها قصائد رومي ولوركا.
لعبت موسيقى مارك كيليان دورا مهما في تصعيد الأحداث وتجسيدها على حقيقتها سواء أكانت في إيران أم في لوس أنجليس. فالصوت موازٍ للصورة من الناحية الفنية كما هو الحال بالنسية للمؤثرات السمعية والبصرية التي أمدّت الفيلم بالكثير من عناصر النجاح والتوهج. أما تصوير ساندرا فالده-هانسن فهو أشبه بالعصب النابض الذي كان يتحرك في كل صورة ومشهد. ولولا المونتير فيليب جي بارتيل لما وصل الفيلم إلى هذه الرشاقة المُستحبة التي أنقذت الفيلم من بعض الترهلات التي يمكن أن تصيب حركته الإنسابية المرهفة هنا أو هناك.