TOP

جريدة المدى > عربي و دولي > طبيب هيكل يروي حكايته مع المريض

طبيب هيكل يروي حكايته مع المريض

نشر في: 18 فبراير, 2016: 12:01 ص

كطبيب اقترب من أحوال الأستاذ لعقدين أدرك كم إرادة الحياة صلدة لديه. في أكتوبر 99 اتصل بي توأم الروح فوزي، الشقيق الأصغر ـ بخمسة عشر عاماً ـ للأستاذ، ليخبرني بنبرة جزعة أنه ذاهب للتو الى كليفلاند لاستقبال «الأستاذ» ـ هكذا اعتاد على وصف الش

كطبيب اقترب من أحوال الأستاذ لعقدين أدرك كم إرادة الحياة صلدة لديه. في أكتوبر 99 اتصل بي توأم الروح فوزي، الشقيق الأصغر ـ بخمسة عشر عاماً ـ للأستاذ، ليخبرني بنبرة جزعة أنه ذاهب للتو الى كليفلاند لاستقبال «الأستاذ» ـ هكذا اعتاد على وصف الشقيق ـ والذي على وشك الوصول إليها حيث سيتوجه من فوره الى مشفاها الشهير لإجراء جراحة بولية عاجلة. أجبته أنني سألحق به بعد يومين، لا سيما وفوزي مضطر للعودة الى جامعته هيوارد للتدريس، فيما تحركي أكثر مرونة، في ضوء ارتباط مسبق لي في كليفلاند وديترويت في تلك الآونة. رجوت زميلين بارزين في كليفلاند كلينيك ان يزورا هيكل، بعد الجراحة، مسبوقين بـ «بوكيه» زهور باسم الجمعية الطبية العربية الأميركية ـ كنت حينها رئيسها السابق ورئيس مؤسسة وقفها ـ فقاما بالواجب وأفاضا. وصلت مساء يوم جمعة وكان هيكل قد انتقل الى فندقه قبلها بساعات، مقيماً في جناح قصي منه، واتصلت فجاء صوت علي مرحباً ومطمئناً وتحدثنا كزميلين يعرفان (البير وغطاه)، ثم أخذ هيكل السماعة ليؤكد التطمين ويثني، فداعبته بالقول: أما وأنت تشعر بقوة حصان فأنا أدعوك للنزول الى قاعة الاحتفالات حيث يقيم فرع الجمعية حفله السنوي، وتكون أنت ضيف الشرف، فاعتذر وقال: أنا لا أريد ان آخذك من زملائك الليلة، ولست بعد في وضع يسمح لي بالنزول، وإذن انتظرك في الصباح، وهكذا كان.
دلفت وزوجتي الى الجناح في الصباح لأجد رجلاً يئن من الألم، وبوصف له كطعنات خنجر في خاصرة.. لكنه برغم ذلك راغب في الكلام، وكأنه يحتاج سميراً ويتحدى ألمه في آن ... وبطبيعة الحال، بدأ الحديث حول استئصال الكلية والحالب وقمة المثانة (أظن على الجانب الأيسر) الذي أجراه بسبب إصابة سرطانية في ذلك الحالب. وذكرته ان تلك بالضبط كانت إصابة الملك حسين في خريف 92، وكأنه قد نقل إليك العدوى لفرط حبه لك! فداهمته ضحكة دعته أن يرجوني تجنيبه أي سبب للضحك! فقلت: خلينا في الجد.. ما قراءتك للمشهد عشية الألفية؟ فانطلق مبحراً في سياحة جيوستراتيجية وسعت ما بين المحيطين، وفي استعارات جغراسياسية تحس مع سماعها أنه يصوغها للتو. وبين الفينة والأخرى كان يعض على أضراسه من الألم ليعود ويغالبه بتدفق في الحديث هادر. سألته: أراك شديد النكير على الحسن والحسين في «وجهات نظر» فهل هو بوح متأخر أم تصفية حساب؟ فقال: لم يكن لي أن أقدم قراءة شاملة لسجلهما إلا بعد أن يتوقف دورهما بالرحيل، وإلا فهي منقوصة، ثم إن كلاهما صديق لي وليس من شيمي الطعن من الخلف بل الطعان في الوجه ومن الأمام، وهما كانا أول العارفين... أبديت تشككاً في سابق روايات مثل رأفت الهجان وتساءلت هل في ذكرك حيازة «الموساد» على تسجيلات مؤتمري القمة في المغرب (الدار البيضاء ـ 65 والرباط ـ 69) قدر من المبالغة في معلومات قدمت إليه ؟ فقال: أنا معك في تلفيقية بطولية وأهمية دور رأفت الهجان، لكن القياس على ذلك مغربياً ليس بالضرورة دقيقاً. استطرد في حديثه عن «الموساد» بالقول إن الأخير حاز على عينة من بول حافظ الأسد في عمان أثناء حضوره جنازة الملك حسين. وجدني مستغرباً بعض الشيء فانتقل لتبادل المعلومات حول صحته، وثنى على ما أعلمه عن ضعف ضخ عضلته القلبية المعتلة وتسببه في نوبات إغماء تطول وتقصر. نقلت الحديث لموضوع التوريث المصري الذي بدأ الحديث حوله بخفر، عند المشتغلين بالشأن العام في مصر، فعلق جازماً: غير ممكن لأسباب عدة أهمها رفض الجيش. كان الهم الأكبر المسيطر على نبرة حديثه وزن مصر النوعي في الإقليم واقترابه من حد الريشة بحكم خور شريحتها الحاكمة وضعف بصيرتها، فإذا أضاف لذلك الغياب القريب لحافظ الأسد والدعث المضطرد للعراق المحاصر فالصورة عنده مدلهمة بالخطب.
رِن الهاتف ليجيب علي ويبلغ والده ان السيد عبدالمحسن على الخط فقلت: لا بده عبدالمحسن ابوالنور، فكتم ضحكة مؤلمة محاولاً ابتسامة معاتبة وقائلاً: بعدين معاك يابوكمال! فاعتذرت ضاحكاً لينهي المكالمة بسرعة ويقول: أنا فين والقطان فين.. يريدني ان أتوقف في لندن لحضور خمسين زواجه، «ده ما كانشي يتعز بس ازاي»؟ قلت: بالمناسبة، كيف هي أحوالك مع ياسر عرفات؟ فقال: لن يأخذ شيئاً من أوسلو فوق ما أخذ، لكنه في المقابل لا يستطيع ان يعطي اكثر. قلت: أستاذ، ما حكايتك مع الشام؟ تمهل برهة وقال: من لا يحافظ على الشام يفرط بمصر ... فيها وعليها الصراع، لفرط قيمتها.
حدقت في وجهه قائلاً: أنا مغادرك الى ديترويت لبقية النهار، لكن زوجتي باقية هنا على تماس. عدت عند المغرب لأجده في بهو الفندق متكئا على ساعد زوجتي، وعصاه في اليد الاخرى، وهما يغدوان بتؤدة جيئة ورواحاً. قلت: معي تعض على أسنانك من الألم اما مع أم علي فصار الألم فعل ماض.. كاد يضحك بلا تمنع خشية وقال: هما شاربيك يا أخي «اللي بيقطعوا النفس» وراح يطنب في الثناء عليها.
كانت أياماً حافلة في حياته واجه فيها قدره وصبر وفاز في معركته ضد السرطان. ثم واجه أزمة أصغر، بعدها بعقد، أتت به الى بوسطن، وسرعان ما تعافى من آثارها.
لكن أزمته الأكبر كانت خسارته لفوزي، وهو في الرابعة والستين، في شتاء 2002... لم تكن غالبية الناس تعرف عن فوزي ولم يكن هو يلتقي بشقيقه الأكبر، لكن قيمته عند الاخير بانت بعفوية شديدة الدرامية عندما التقيته في مكتبه في تموز اللاحق. جذبني محتضناً بقوة و «نهنه» على كتفي بنفس شبه مكتوم يحاول عبثاً التجلد، مضت ثوان بدت بطول الدقائق، ثم خرجت من فمه عبارة لا أنساها ما حييت: أنت من رائحة الحبيب.. كان أخاً ورفيقاً وابناً لا يعوّضه معيض.. غيرت دفة الحديث بالسؤال عن الشقيقة تهاني ثم جلسنا لنقاش مسهب قبل ان نتفارق بقرب مسجد عمر مكرم، حيث توجه لسرادق عزاء.
فوجئت به في ديسمبركانون الاول 2013 ببيروت وهو يعود لتدخين السيجار، فعلق بالقول: عمري من ورائي، أريد أن أشرب رحيق الحياة بتوسع معتدل.
حالما سمعت عن كسر عنق الفخذ عنده الصيف الفائت انقبضت من نوع الإصابة في سنه، حيث هي في المعتاد نقطة انكسار في مسيرة الجسم بعموم، لكنني سارعت بالرهان على فولاذية إرادة الحياة عنده وقدرته على مغالبة معيقاتها... ولا زال الرهان مستمراً.

 عن موقع صحيفة السفير اللبنانية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

تناقص التواجد الهندوسي في بنغلاديش وباكستان

تناقص التواجد الهندوسي في بنغلاديش وباكستان

ترجمة/ عدنان علي أشارت تقارير الى تلاشي تواجد الهندوس في بنغلاديش بعد ان كانوا متواجدين فيها على مدى أجيال تتردد أصواتهم في معابد ومشاركاتهم في مهرجانات ضخمة. هذا هو الواقع المأساوي للهندوس في بنغلاديش....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram