بينما يواجه العراق أزمات حقيقية تضعه على حافة التفتيت والتقسيم، لجهة تفاقم العجز المالي، وتعقيد الحرب على داعش، ودخولها في خانة الاستقطابات الاقليمية، يحلو للنخب السياسية إطلاق أحلامهم في الفضاء العام باسترخاء عجيب.
فخلال الاسبوع المنتهي، انخرطت النخب السياسية، في جدل بيزنطي يركز على خيارات حكومة التكنوقراط، وملامحها واستحقاقاتها على المستوى الكتلوي ثم الطائفي والقومي اخيرا. هذا الجدل نجح بشكل ما بحرف الانظار عن استحقاقات الحرب على داعش، والضائقة المالية التي نمر بها حاليا.
لم تنتظر الاطراف الشيعية، ارتدادات القنبلة التي فجرها العبادي قبل جولته الاوروبية، كعادته في هكذا قرارات مصيرية. فقد طرح زعيم التيار الصدري رؤيته الخاصة، والتي لاتعدو كونها تنويعا على مقترح العبادي، ثم تلاه المجلس الاعلى برئاسة الحكيم.
ليونة الموقف الصدري، وحدّة موقف الحكيم، لم تخفّ صدمتهما من ثاني خطوة يفاجئهما بإطلاقها رئيس الحكومة بعد "حزم الاصلاح". ومن هنا يمكن الادعاء بأن الصدر والحكيم وضعا "فيتو" واضحة أمام "حكومة التكنوقراط" التي يطمح العبادي بمعزل عن الرعاة الشيعة لحكومته. لقد رفض الصدر والحكيم منح العبادي صكا على بياض، رغم اعترافهما، ولو حرجا، بأهمية زج التكنوقراط داخل التشكيلة الوزارية.
ما يلفت الانتباه، في خضم هذا السجال المتواصل منذ الاسبوع الماضي، دعوة الحكيم والمجلس الاعلى الى تشكيل حكومة أغلبية سياسية، مع تلويح خجول بإمكانية تغيير العبادي ذاته.
بخلاف موقف الصدر، فإن الحكيم نقلنا نقلة متقدمة للوصول الى معالجة جذر المشكلة السياسية في العراق، والتي تتمثل بالحكومات الائتلافية وفشلها التاريخي كإطار لادارة الدولة. فتركيا مثلا لم تخرج من أزماتها، ولم تتحول كقوة اقتصادية وسياسية اقليميا وعالميا، الا بعد ان غادرت الحكومات الائتلافية التي كانت يتقاسمها حزب الشعب والحزب الجمهوري حتى مطلع الألفية.
لبنان يعتبر مثالاً بارزاً لإخفاق الحكومات الائتلافية. فهذا البلد منذ 10 أعوام يدير شؤونه المالية من دون قانون للموازنة، وتسير شؤون السياسية، ومنذ عامين، بلا رئيس جمهورية. وحكومة لبنان بدورها تعاني من هشاشة مزمنة ورثتها من النظام الطائفي، الذي تشكل في أربعينات القرن الماضي، وتكرس بشكل عبر ابرام اتفاق الطائف الشهير.
في هذا السياق، يمثل موقف الحكيم اعترافاً ضمنياً بفشل آخر تجربة للحكومات الائتلافية، التي تبنى عادة على الترضيات والتسويات والصفقات، أكثر من اعتمادها على البرامج الحقيقية.
وبعيداً عن جدية المجلس الاعلى في ردة فعله، المختلفة هذه المرة، حيال مشروع التعديل الوزاري، فإن موقفه يمثل تحولاً صحيّاً في الرؤية السياسية للاحزاب والكتل الكبرى. فليس من المعقول الاستمرار بالفشل وتجريب صيغ تؤدي الى الفشل ومن ثم تحميل رئيس الحكومة لوحده مسؤوليه ذلك.
أضاع العبادي فرصتين ذهبيتين لولادة حكومة اغلبية سياسية قائمة على التكنوقراط. اولى هذه الفرص عندما كلّف بتشكيل الكابينة الوزارية، في أيلول 2014، اعتماد على زخم الدعم المحلي والدولي الذي حظي به. وثاني تلك الفرص، موجة الاحتجاجات، الصيف الماضي، والتفويض الشعبي والمرجعي الذي لم يحسن استثماره.
الان وقد انحسر الدعم الشعبي للاصلاحات، وقررت المرجعية العودة الى عزلتها، فإن مشروع رئيس الوزراء أصبح تحت رحمة حلفاء أشد عليه من خصومه.
لكن ما يدعو للتفاؤل، هو توصل الكتل السياسية الى لحظة اعتراف بفشل المعادلة الحكومية التي تولت ادارة شؤون البلاد منذ 2003. ويجب ان يكلّل هذا الاعتراف، باتفاق سياسي على تبني خيار حكومات الاغلبية لأنها خيار عملي وواقعي، وباستطاعته القضاء على أحلام التسلط التي تدور في رؤوس الكثيرين.
في رثاء الحكومات الائتلافية
[post-views]
نشر في: 17 فبراير, 2016: 09:01 م