TOP

جريدة المدى > عام > أنا لا أقرأ.. أنا أكتب

أنا لا أقرأ.. أنا أكتب

نشر في: 21 فبراير, 2016: 12:01 ص

كان في الخمسين من عمره عندما هبطت عليه الشهرة  فجأة ، لتضعه  في الصفوف الاولى من كتّاب العالم . يتذكر ان ناشر كتبه  طلب منه ذات يوم ان يجرب حظه في الرواية ، فالكتب التي يكتبها على الرغم من اهميتها العلمية إلا أنها لاتجلب سوى القليل من

كان في الخمسين من عمره عندما هبطت عليه الشهرة  فجأة ، لتضعه  في الصفوف الاولى من كتّاب العالم . يتذكر ان ناشر كتبه  طلب منه ذات يوم ان يجرب حظه في الرواية ، فالكتب التي يكتبها على الرغم من اهميتها العلمية إلا أنها لاتجلب سوى القليل من المال  . وجد الامر ممتعاً ، فقد كان يحلم منذ ان كان صبياً ان يقلد الكسندر دوماس وفرسانه الثلاثة .  تفرغ لمدة سنتين ليكتب رواية بوليسية  بطلها صورة مستسخه من شاعره المفضل  خورخي بورخيس ،  الراهب الاعمى الذي يحتفظ بمخطوطة ارسطو في مكان سري بعيدا عن أعين الفضوليين . تصدر الرواية وما هي الا اسابيع حتى تصل مبيعاتها الى عشرة ملايين نسخة ، لتنقل صاحبها من عالم الألسنيات الهادئ  المنعزل الى عالم ضاج وصاخب تلاحقه فيه كاميرات النجوم  ،  وعندما يسأله محرر التلغراف كيف كتب اسم الوردة  ؟ يجيب ضاحكاً: من اليسار الى اليمين ،  وقبل ان تظهر علامات الاستغراب على وجه الصحفي  يكمل ايكو : لقد تعلمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الاولى ، منها ان الإلهام كلمة سيئة وعادة ما يستعملها بعض الكتاب اعتباطا لكي يلبسوا لبوس الفنانين المحترمين ،  وكما يقول المثل ان العبقرية لاتغطي سوى عشرة بالمئة من الإلهام ، اما التسعون في المئة الباقية فمصدرها الجهد الفردي للكاتب . يقال ان الكسندر دوماس وصف الظروف التي كتب فيها إحدى أجمل رواياته دفعة واحدة فيما يشبه الإشراق،  إلا أنه عندما مات عثروا في أوراقه على عدد هائل من صيغ الروايات التي تدل على انه كتبها وأعاد كتابتها على مدى سنوات طوال.
هل كان يتوقع نجاحاً بهذه الضخامة ؟ يخبر الكاتبة اللبنانية جمانة حداد في حوارها معه والذي نشر في كتاب "لصوص النار" :  لا شكّ عندي في أن اصغر كويتب وأتفه شويعر في هذا العالم يحلمان، أثناء الكتابة، بأنهما سيرثان عرش هوميروس ، وبأن ملايين القرّاء سوف يتلون نصوصهما عن ظهر قلب، وإذا لم يكونا يفكّران بهذه الطريقة، أي إذا لم يكن الكاتب يظن انه سيتجاوز جميع الذين سبقوه و"يقتلهم"، يُستحسن به ألا يحاول الكتابة أصلا. التواضع ليس صديقاً جيداً للخلق.
لم يكن يتوقع  أن تصبح "اسم الوردة" طريقه الى عالم الشهرة ،  عندما انتهى من  المخطوطة، كان يموي  نشرها ضمن "السلسلة الزرقاء"، وهي سلسلة خاصة بالكتب النخبوية وذات الطابع الخاص غير الجماهيري، وعندما عبّر له الناشر  عن حماسته الشديدة للكتاب بعد اطلاعه عليه، وقال له إنه سيطبع منه ثلاثين ألف نسخة، فكّرثم قال وهو يضحك : "لا بد أنك فقدت صوابك !". لكن الناشر كان مصرا وليثبت حسن النية منحه  دفعة مسبقة على الثلاثين ألف نسخة، ليخرج من من مكتبه ليشتري فورا حقيبة جلدية غالية الثمن .
في كتابه "اعترافات روائي شاب" يخبرنا بأنه كثيرا ما كره هذه الرواية ،يقصد "اسم الوردة" ، لأن ما كتبه بعدها برأيه كان افضل بكثير . لكنه مثل صديقه غابرييل غارسيا ماركيز كتب ثلاثين  كتاباً، لكن الناس لا تتذكر سوى "مائة عام من العزلة" ،  وذات يوم وهو يقف على واجهة احدى المكتبات يسمع احد المارة  يقول لصاحبة وهما ينظران للكتب المعروضة في الواجهة  :  آه، كتاب جديد للكاتب إيكو، لكنني لم أقرأ له بعد كتابه الافضل "اسم الوردة ."
تستهويه لعبة الرواية وبحبوحة الشهرة ، فيقرر ان يقدم روايته الثانية "بندول فوكو" التي تدخل  بها ايضا الى عالم ملايين النسخ ، وفيها يبحث عن المؤامرات التي حدثت في التاريخ وكيف انتهت بأصحابها الى الجنون او الموت ، يقول تعليقاً على ما كتبه النقاد عن تمسكه بالألغاز في رواياته،  ولماذا تستهويه لعبة المؤامرات : في السنوات العشر الأولى من حياتي تعلمت على يد الفاشيين في المدرسة، وكانوا باستمرار يتحدثون عن المؤامرة الدولية: الانكليز واليهود والرأسماليون يتآمرون ضد الشعب الإيطالي الفقير. هتلر بدوره كان يفعل الشيء ذاته. وبرلوسكوني قضى كل حملاته الانتخابية وهو يتحدث عن المؤامرة التي كان الشيوعيون يحيكونها ضده. مع أننا لم نعد نر شيوعيين من حولنا، حتى لو حملت المصباح وبحثت عنهم هنا وهناك، إلا أن برلوسكوني لا يزال يراهم أمامه محاولين الاستيلاء على السلطة ".
حين يذهب لمشاهدة الفيلم المقتبس من "اسم الوردة"  يعلق على سؤال لأحد الصحفيين : في الرواية حاولت ان أقدم ساندويشاً للقارئ بداخله ، لحم ديك رومي،  وسجق  وطماطم وجبن وخسّ. إلا أن صناع الفيلم للأسف لم يقدموا للمشاهد سوى  الخسّ فقط.
في الفصل الاخير من  من كتابه الممتع  "اعترافات روائي" ، والذي عنوانه  "كتب ..كتب ..كتب "  يحدثنا عن  القراءة :  هناك في العالم كتب أكثر من الساعات التي يمكن تخصيصها للقراءة. نحن بالتالي نشعر بتأثير عميق للكتب التي لم نقرأها، التي لم يتوفر لنا الوقت لقراءتها.. يتعيّن عليّ أن أعترف بأني لم أقرأ (الحرب والسلام) إلا حين بلغت الأربعين من عمري. لكنني كنت أعرف سلفاً مجريات الرواية الأساسية. هكذا نستطيع أن نرى بأن العالم مليء بالكتب التي لم نقرأها، لكننا نعرف جيداً محتوياتها. وعندما نلتقط الكتاب أخيراً، نكتشف أنه مألوف. كيف يحدث ذلك؟ .
عندما يسأله أحد عما إذا كان قد قرأ هذه الرواية أو ذاك الكتاب، نراه يلجأ الى الإجابة الآمنة : " لعلمك، أنا لا أقرأ، أنا أكتب" . هذا الرد يجعل من يريد ان يتحدث  يلوذ بالصمت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بين إرث ما بعد الدراما وعودة السرد "مسرح أوروبا معقلا ونموذجا"

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

من منسيات النقد الأدبي في العراق

طقوس فارسية .. علامة فارقة في الأدب الإيراني

صلاح عباس: على مدى تاريخ الحقب الصدامية لم يشكل فن الحرب ظاهرة مميزة مثلما موجود في العالم

مقالات ذات صلة

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي
عام

الفلسفة ركيزة اساسية للذكاء الإصطناعي

أنتوني غريلينغ* ، بريان بول** ترجمة: لطفية الدليمي أعلنت شركة OpenAI مؤخرًا أنّها تتوقّع مَقْدَمَ «الذكاء الفائق Superintelligence" - أي ذكاء اصطناعي يفوق القدرات البشرية - خلال هذا العقد ( العقد الثالث من القرن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram