بقدر ما كان رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي يحاول أن تتّسم تصوراته بالوضوح، انتهى إلى خلاصاتٍ هي أقرب ما تكون إلى "الاستدارة" حول ما يريده من تغيير حكومي بلباس تكنوقراط ، أطلق عليها توصيف " توافقي" ، وليس "محاصصيّاً" ، كما هي الحال في تشكيلكابينته الح
بقدر ما كان رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي يحاول أن تتّسم تصوراته بالوضوح، انتهى إلى خلاصاتٍ هي أقرب ما تكون إلى "الاستدارة" حول ما يريده من تغيير حكومي بلباس تكنوقراط ، أطلق عليها توصيف " توافقي" ، وليس "محاصصيّاً" ، كما هي الحال في تشكيل
كابينته الحكومية الحالية.
ومنذ أعلن نيته الانتقال إلى تشكيل حكومة تكنوقراط عابرة للمحاصصة، أخذت الحيرة الناس في فكّ شيفرة "التكنوقراط" كمفهومٍ وتوصيفٍ ملموس، من جانب، والآليات التي سيعتمدها رئيس مجلس الوزراء لإمرار مشروعه " الإصلاحي" المنتظر من جانب آخر. وازدادت الحيرة بعد مطالعته تحت قبّة البرلمان، التي اتّضح فيها أنه يرى في الحكومة المنتظرة "أُم الإصلاحات" والبداية الواقعية لتحويل الممكن في الخروج من شدّة الأزمات التي فاقمها شحّ الموارد، إلى واقعٍ يتدفّق بالعافية والنموّ والاستقرار.
وقد تزاحمت التساؤلات حول النوايا والممكنات والآليات وغيرها مما لها علاقة بالمنظومة السياسية الراهنة وأسس إدارة السلطة والدولة وسبل الخروج من استحكاماتها الحصينة. وكلّ سؤالٍ مما يُطرح مشروعٌ وله ما يبرره، فالبناء السياسي الذي جرى التعبير المُمَوّه عنه دستورياً، متكاملٌ في تمثيله لنظام المحاصصة الطائفية ولما جرى التعارف على ترجمته سياسياً بمصطلح
" التوافق". وكان المُراد لهذا المصطلح في أعقاب إطاحة الدكتاتورية والشروع بإرساء أسس بناء العراق الجديد، أن يكون "تكييفاً ديمقراطياً" لمرحلة انتقالية تمهّد لتأسيس دولة مدنيّة مؤسساتية "لبَنَتُها" المواطنة الحرّة والقانون والحريات.
وعلى خلاف ما توافقت عليه القوى المقرّرة برعاية بول بريمر، فإن المرحلة الانتقالية، صارت تُعيد إنتاج نفسها عبر سلسلة متّصلة من التكييفات الدستورية، ومن خلال فضّ الإرادات الشعبية عبر الانتخابات، لكي تتكرّس وتصبح نظاماً مكوّناتياً قائماً بذاته، عصيّاً على التغيير بالاعتماد على نصوص وثوابت الدستور ومبادئه وأحكامه وقيمه وما شُرّع استناداً إليه من قوانين.
وتحوّلت العملية السياسية إلى حاضنة لمنظومة المحاصصة والتوافق وأداة ديمومتها في ذات الوقت، مما يتعذّر، أو حتى يُصبح شبه مستحيل، الخروج من دائرتها المغلقة، باستحكاماتها التي تتشكل نواتاتها من قانون الانتخاب ومن المفوضية العليا " المستقلّة " للانتخابات وما يتمخّض عنهما من برلمان وحكومة ورئاسة ..
وقد تنبّه السيد العبادي لهذه الدائرة المغلقة في البرلمان، بعد أن غاب عنها فترة ترؤسه مجلس الوزراء، وهو ما وجد تعبيره في مطالبته بمنحه صلاحية تشكيل حكومة تكنوقراط خارج منظومة المحاصصة، ولكن بالتوافق ..! وكأنه لا يعلم، رغم كونه ابناً مجرّباً للمؤسسة التشريعية ويُفترض أنه عارفٌ بخفاياها ومدركٌ لما يدور في كواليسها، أنّ التوافق لا يعني بأدقّ تعبيرٍ سياسي سوى المحاصصة وآلياتها. ليس هذا فحسب ، بل إنّ المشرِّعين (النواب) أنفسهم، لا يفهمون من المطالبة باحترام الدستور نفسه إلا تعبيراً مكيّفاً آخر عن المحاصصة وتوافقاتها.
يبقى بعد هذا المأزق من الاستحكامات التي تحمي المنظومة السياسية القائمة، الانتقال إلى ما يستبدّ بنا جميعاً من فهم السيد العبادي وقادة الكتل والأحزاب الطائفية لمصطلح " التكنوقراط" والكيفية التي يعتمدونها في اختيارمَن يرون فيهم تطابقاً مع المصطلح للكابينة الوزارية القادمة "أُم الإصلاحات والتغيير" ..
وإذا سلّمنا بأن التكنوقراط يندرج في خانة الكفاءة الموصوفة، المتسلّحة بالعلم والمعرفة، على خلفية التجربة العملية، فإن أول ما يستلزمه ذلك قبل تشخيص المطلوب ترشيحهم للوزارة القادمة، هو تحديد الأولويات التي تندرج في الحاجات الملحّة البنيوية، بطابعها الاقتصادي " الخدماتي" قبل كل شيء، المرتهن بإعادة بناء الدولة جذرياً، وتصفية جذور الإرهاب والفساد، وما يرتبط بها من متطلبات إخراج البلاد من أزمتها المركّبة، السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية. ولا شك في أنّ قوام هذه الأزمة يتجسّد في المنظومة المحاصصية والنصوص الدستورية "حمّالة الأوجه"، وهي ليست موضوع الأولوية التي تتبناها حكومة التكنوقراط، كمهمة مباشرة، إذ ليس بمستطاعها تفكيك منظومة المحاصصة. لكنّ ذلك يمكن أن يجد طريقه بإعادة النظر في قانون الانتخابات، وفي إعادة تشكيل المفوضية العليا المشرفة عليها، التي لن يكون ممكناً ضمان استقلاليتها الفعلية، دون تجريد إرادتها من هيمنة المحاصصة والتوافق. ويتعذّرتحقيق ذلك إلّا بإيكال المهمة إلى ممثلية الأُمم المتحدة في العراق، أو بالتعاون معها.
ترى ما الذي بمقدور السيد العبادي أن يفعله للخروج من استحكامات أُمراء الطوائف وأسياد العملية السياسية، وكلّ منهم يتفنّن في صياغة مفهومٍ لـ " التكنوقراط " متلفّعٍ بلجانٍ برلمانية أو حكومية أو مدنية تتناسب مع ما يريده، ضماناً للحفاظ على مواقعه ومكاسبه ومغانمه، والأهمّ من ذلك، الحفاظ على الدائرة المغلقة للمحاصصة الطائفية وتوافقاتها المديدة؟!
علينا ونحن نُمنّي النفس بخلاصٍ ميسور، أن لا ننساق وراء مبالغاتٍ تتغذّى على ما نحن فيه من صعوبات العيش والقلق وغياب الأمن والاستقرار. ويكفي أن نتشبّث ببقايا أملٍ لا نريد له أن يضيع في خضمّ تراشق المواقف المأزومة لقادة النظام المحاصصي، والأجواء المشحونة بالعياط المتذمّر في مجلس النواب.
جميع التعليقات 2
د عادل على
مشكلة العراق لها اسباب عديدة-----مع الاسف الشديد اخوتنا السنه العرب لا يتقبلون انتقال السلطه التى كانت طابو لهم وحقهم الشرعى الدى منح اليهم من الامبراطوريه البريطانيه الى الاكثريه الشيعيه---المشكلة الثانيه تكمن فى حقيقة فقر الشيعه للمختصين والخبراء والمدي
محمد سعيد
شكرا علي هذه المقاله الشامله . من يصدق اصحاب التقيه . انه شخص لايزال نافذ في حزب الدعوه الذي ساهم بامتياز في تضيع العراق , وتدمير كافه مقومات الحياة فيه. فكل كلام اخر قد يسوق الانسان العاقل لاستنتاج واضح, بان اصبح معظم رعايا هذا الوطن المنكوب