القسم الثاني
الحياة بلامعنى إذن - هذه القناعة هي ماينتهي إليها ( وودي آلن ) في كلامه المثير فيما يخص غائية الحياة ، وعند هذا المفصل الحاسم وجدتُني أتخيل جموع المشاهدين للفديو والمدى المتطرف لما يمكن أن تبلغه ردود أفعالهم تجاه ماسمعوه على لسان ( آلن ) ، وربما سيندفع الكثيرون إلى وصم الرجل بنعوت من قبيل غياب الإيمان أو السوداوية العدمية أو الكآبة المزمنة والمستفحلة على الرغم من أن هيئة الرجل تنمّ عن شخصية ظريفة متفكّهة تميل للبوح بقناعاتها بوضوح ومباشرة ، كما أن ملامح الرجل لاتشي بأي من مظاهر الاكتئاب أو اكتناز الأسرار أو الميل نحو نزعة باطنية شائعة في أوساطنا . وسأقول بوضوح أنني أميل إلى ماذهب إليه الرجل ؛ إذ لم يرد في مسموعاتي أو مقروءاتي أن الذين انجزوا إنجازات عظيمة في ميادينهم كانوا متفائلين أو متشائمين طبقاً لما تمليه ترتيباتهم الذهنية والسايكولوجية وموقفهم الفلسفي من الحياة ، بل كانوا يعملون بدفع من الشعور الصارم بالضرورة الميتافيزيقية غير المسبّبة لأن يعملوا ويجوّدوا في عملهم من غير مساءلة لهذه الضرورة ، أي أن الأمر معهم كان مثلما هو الحال مع الدجاجة التي تبيض على نحو يومي تقريباً من غير أن تسائل نفسها هل تبيض أم لاتفعل ؟ !!
يمضي ( آلن ) في تأكيد فكرته بقوله : ( كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم - الأرض ستزول ، والشمس ستنفجر ، والكون سينتهي ، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنجيلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة . إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابيّ حول هذا الأمر ....... ) .
ولكن كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية ؟ ثمة فرق حاسم بين كون الحياة تركيباً مفتقداً للمعنى في ذاته وبين مانخلعه نحن على الحياة من معنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية : الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لأن تكون ساحة لفعالية روائية ، والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية وعلى النحو الذي تختزله عبارة الفيزيائي البريطاني السير ( جيمس جينز ) عندما قال أن الله صار يبدو لنا وكأنه المعمار الرياضياتي الأعظم في الكون . ويسري ذات الأمر مع الآخرين وكلّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني وممارسته الحرفية ولكن يبقى الأمر السائد هو أن الحياة لاتمتلك غائية ذاتية وهو الأمر المكافئ للقول أنها بلا معنى.
تحضرني وأنا أكتب هذه الكلمات عبارة رائعة كنت قرأتها في تسعينات القرن الماضي منشورة في مجلة ( آفاق عربية ) وقد كتبها الراحل الطيب الذكر ( جبرا إبراهيم جبرا ) قبل بضعة شهور من وفاته ، وصرّح الراحل في عبارته تلك أنه زار الكثير من الأماكن وتمشى في جوف الغابات ودرّس في الكثير من الجامعات وقرأ وكتب الكثير ولم يكن يبتغي من كل مافعل سوى الحصول على قطرتين من الحلاوة وسط بحر المرارات التي تزخر بها الحياة!
ولكن من جانب آخر ، كيف يمكن التعامل على نحو إجرائي يومي مع حياة خلوّ من المعنى في ذاتها ؟ ذلك ماسيحكي عنه “وودي آلن” في المقالة القادمة
يتبع