اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حكايةُ حبٍّ قديمة

حكايةُ حبٍّ قديمة

نشر في: 27 فبراير, 2016: 09:01 م

كنتَ أولَّ من سمعت منه قصة عن الحب، وما يفعله في القلوب والاجساد، وما كنتُ جربته قبل ذلك، ففي ربيع، لعله كان في منتصف القرن الماضي، وتحت حائط من طين قديم قديم، أكلت الأمطار والرياح ما أمكنها من، تحت شجرة عملاقة هي الأقرب على النهر، أجلستني لتقول لي بانك تكاد تمسك بلبلاً صغيراً بين أضلاعك، وأن شيئاً يشبه فوران الماء في إبريق ضيق يعتمل في قلبك، ومثل من تمدد بين يدي طبيبه مسحوراً، رحت أعصر كفك، أمسح العرق عن جبينك، أقرئك ما أحفظ من الآي والحديث. كنتُ أظنك شاهدت فيلماً مرعباً، في إحدى دور السينما الكثيرة في المدينة، أو أنّ أحدهم قصَّ عليك حكاية ما من حكايات الجن، لكنَّ حركة يدك واصفرار وجهك والألم الذي بدأ ينهش الكثير من لحم جسدك دلني على ما لم أعهده فيك من قبل. فأنا لا أعرف عن الحب أكثر من حكاية مصورة في كتاب، بين عمر الشريف وفاتن حمامة.
ومن جيب في سروالك الخلفي أخرجت ورقة صغيرة، ورحت تقرأ عليّ ما كتبته صاحبتك. قلت هذا مكتوب منها، لم تكن رسالة بختم البريد، وليس هنالك من مظروف ملون بالأحمر والازرق، إنما ورقة منزوعة من دفتر مدرسي، لم تنتظم حروفها المكتوبة بالقلم الرصاص، خمسة او ستة أسطر لا أكثر، لكنها كانت تقول أشياء كثيرة، أشياء لم أحفظ منها إلا الكلمة والكلمتين، لم أقرأ اسم صاحبتك، فقد وضعت كفك الصغيرة على كلمتين اسفل الورقة، غير أنني توقفت عند القلب المرسوم في أعلى أعلاها، عند السهم الذي يخترقه، وكما لو أنني أستشعر ما يحدثه سهم طويل، برأس مدبب مشحوذ في رأسه، وبشعبتين نافرتين في نهايته، رحت أقرن بين ما تعاني منه من آلام بين أضلاعك وبين ما يمكن أن يحدثه سهم مقذوف من بعيد. وحين صرت ألتقيك ثانية وثالثة لم أر أنك صرت أحسن، فقد كنت أشد نحولاً، لكنك لم تحدثني عن المكتوب ذاك، لم تحدثني عن صاحبتك حتى.
  سنوات طويلة مرت، حرثنا الكثير من البساتين وصعدنا الطوال والقصار من النخل وكرينا عشرات ومئات الأنهار، تبدلت أسماء الناس وانتسب هذا لهذه وانفصل ذاك عن هذا.  أخذنا الى المقابر ما أخذنا من الرجال والنساء والاطفال،  وانت ما زلت تحتفظ بالمكتوب، تشهره في وجهي كلما تفتحت وردة في الجوار، كلما هبت نسائم من ربيع عابر، كلما لاحت في شاشة التلفزيون صورة لسميرة توفيق أو لنادية لطفي أو لغيرهما من حسناوات الدنيا. ومع أنني صرت أعي ما يحدثه الحب والوله في قلوب البعض من الناس لكنني وجدتك لا تشبه أحداً فيهم. كنت عاشقاً من طراز آخر، لطالما رحت أتأمل عينيك الدامعتين وأنت فارغ مني، بعيدُ، على وسادتك، أعلى السطح، تحدّث عنها البعيدات من النجوم، تحصي أخطاء السماوات ولا يجيبك أحد.
خمسون عاماً مضت وانت تخفي عنّي اسم صاحبتك، محبوبتك. تبهم الكلمتين اللتين وضعت كفك عليهما، قبل نصف قرن ويزيد. نعم، أنا، لم أسألك عن اسمها، ومن تكون، أو هي ابنة من، ما أنا ممن يتعقبون الحكايات حتى نهاياتها، فقد اكتفيت بما عانيت من آلامك، ورحتُ، أحاول ما أمكنني ترويض الوحش الذي هجم عليك ذات يوم، أمرن يدي خفيفةً على انتزاع السهم الذي أصاب قلبك.
  ذات يوم، وبعد أن هدّتنا السنوات أملاً ويأسا، وانتزعت الأيام منا ما انتزعت، من أعين وآذان وأيدٍ وأقدام، وفي بيت من بيوت اهلنا الكثر، وقد جمعنا مجلس للفرح عائلي، كنتُ معك، وكنت معي، نحيي الفرحين، نستمتع بنقر الدرابك والمزامير والأكف، بأبنائنا وهم يغنون ويرقصون. كنت قبالتك تماماً، في الديوان المضاء الطويل، تبتسم لي وأبتسم لك، تهدل يشماغي فأحسنتَ تنبهني، وتهدل يشماغك فأحسنتُ تنبيهك، أحاول أن أبدو وقوراً، وتحاول أنت كذلك. تبادلني التحية فأردها بأحسن منها، شربنا الشاي، وأكلنا الكعك والحلوى. ولما قارب الليل أن ينقضي، وكما لو أنني اكشف عن نبع عذابك، عن شحوبك ونحولك ومناجياتك رأيتك تومئ لشقيقتي التي كانت بجانبي.  وهي امرأة قاربت الستين، ترفع كفك لي وما هي لي، تبتسم وما أنت بباسم لي، تغرورق عيناك بهجة وما انا إلا ببعض ما فيهما....  ياه، يا أخي:  لماذا تركت سهم حبّك نابتا في قلبك كل السنوات الطوال تلك؟ لماذا طمرت نحيبك خفياً في صدرك، وقد مضى نصف قرن عليه ويزيد؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram