TOP

جريدة المدى > عام > الشاعر هو الأوسع حيلةً من طغيان الشعر

الشاعر هو الأوسع حيلةً من طغيان الشعر

نشر في: 29 فبراير, 2016: 12:01 ص

هذه واحدة من قصائد حسب الشيخ جعفر التي جاءت بعد الفترة التي تمكن تسميتها بـ (فترة التواري في قاموس)، تلك الفترة التي ابتدأها حسب بـ (كران البور)، وكان ملمحها الأبرز، ولعله الأسهل تشخيصاً للقارئ، هو الابتعاد عن اللغة المعاشة، ومعها الابتعاد عن الحياة

هذه واحدة من قصائد حسب الشيخ جعفر التي جاءت بعد الفترة التي تمكن تسميتها بـ (فترة التواري في قاموس)، تلك الفترة التي ابتدأها حسب بـ (كران البور)، وكان ملمحها الأبرز، ولعله الأسهل تشخيصاً للقارئ، هو الابتعاد عن اللغة المعاشة، ومعها الابتعاد عن الحياة اليومية، والاستعاضة عن تلك اللغة بلغة غير مألوفة وبقاموس من كلمات كان يستحيل التعامل معها ربما حتى من ناس عاشوا وماتوا قبل مئات السنين وليس منا نحن معاصري حسب الشيخ وقراءه في مطلع الألفينية الثالثة. وتبعاً لذلك فقد استعاض الشاعر عن عوالم الحياة اليومية التي كانت تشكل مكاناً وزمناُ أثيراً بقصائده الأولى وفي دواوينه الأولى بتخليق عوالم كانت تضارع في غموضها ولا أرضيتها غربة لغة قصائد (كران البور) وما بعده. لقد كانت فترة (التواري في قاموس) تجربة تستحق فعلاً التأمل النقدي والخروج بأكثر من خلاصة فنية وفكرية ونفسية عنها؛ ترددُ القراءِ، وأنا منهم، إزاء تلك التجربة وحتى النفور من عوالمها، لا تعفي النقد من مسؤولية المراجعة والتأمل فيها.
هذه القصيدة من ديوان (الفراشة والعكاز) وهو الديوان المعبّر بوضوح عن تحرّر الشاعر من ربقة القاموس القديم، والعودة ثانيةً إلى عوالمِه التي كانت تمزج الانغماس بالحياة اليومية بجوٍّ غرائبي هو الأكثر تمثلاً بما هو أسطوري، وببحث شعري ظلّ ينشغل بتحرّي الجمال ومحاولة القبض عليه وباختفائه وتواريه.
في قصيدة (القفص) يمكن للقارئ أن يقف بوضوح عند ذلك التحرر من أسر القاموس وتلك العودة إلى فضاء عالمه الأول الرحب. مرة أخرى يقف حسب، بهذا الديوان، عند عوالمه وأماكنه الأثيرة تلك التي كانت تؤثث جغرافية قصائده الأولى بالشوارع والمقاهي وبالغرف المغلقة والليالي والأضواء وتحييها بالنساء الغريبات النادرات، لكن حسب الشيخ جعفر، وهو شاعر خبير وماهر في استخدام خبراته، لا يعود إلى حيث لحظته تلك ولا إلى لحظة مكان خروجه، إنه يقدم فعلاً إلى عالم (الطائر الخشبي) و (زيارة السيدة السومرية) و(عبر الحائط في المرآة) ولكن من دون أن يترك وراءه آثار الزمن وتغيّرات الحياة سواء فيه هو أو في العوالم والأماكن التي يعود إليها.
يأتي الشاعر إلى عوالمه متغيراً وتستقبله العوالم بالتغيير ذاته.
ليست ثمة أضواء من ثريات باهرة؛ هنا الضوء (كليل)، والظلال أكثر حضوراً. تختفي الموسيقى ويختفي الرقص، عالم من سكون ذابل ورقاد ثقيل، وليس مستحيلاً أن تتشمم حواس القارئ بين التفاصيل المبثوثة في القصيدة روائح متوارية وآثار دارسة لهذا الركود على الستائر وتحت المقعد المهترئ (حتى وإن وصفته القصيدة بالوثير) وفي أروقة المماشي الموحشة الطويلة. إنها الظلال الثقيلة لشيخوخة العوالم والنساء والمكان والحياة.
لا بقايا من تلك النساء الآسرات، نساء (الطائر الخشبي) و(السيدة السومرية)، اللائي كن يحضرن كبرق فلا يلبثن حتى يتوارين في لحظة عناق أو ممن كنّ يشخصن بمناسبة رؤية خاطفة في (معرض لباتا) ثم يختفين. لا بقايا هنا، في هذه القصيدة، سوى سيدة هرمة هي من تتكفل هذه المرة بمهمة (تصيّد المتوحدين) حيث (تلفّ كالساعي، المدينةَ، أو تجوب الدرب، كالسكرى، بمركبة طويلة). إنها سيدة حبيسة قصرها، ليس ثمة إلا صقر حبيس لا يبدد وحشة المكان قدر ما يزيد في كابوس وحشته، وهي مَن تهيئ، هذه المرة أيضاً وبخلاف الماضي، وتعدّ المائدة من أجل حفل هو ليس أكثر من حفل مفترض. لكنها حفلة ليس من أجل ليلة حب لإحياء حياة تذبل وتتقهقر نحو الموت؛ إنها حفلة من أجل الموت، هكذا تندحر الحياة ومعها يندحر الحب نحو مصير مؤامراتي كابوسي تستدرج المرأة العجوز من أجله المتوحدين الضائعين بسيارتها الكاديلاك نحو لياليها وموائدها وكؤوسها الكونياك و(أقراصها) المخبأة، نحو قصر النهاية.تتوارى في هذه العودة المتأخرة إلى عوالم مستعادة من ستينات وسبعينات الشاعر حيويةُ تدفقِ الحياة والحب، كما تتوارى الأضواء، وتتوارى معها نشوة الإمساك بالجمال. ومع هذا الانشغال الثيمي الجديد يتوارى تدفق الايقاع بكتابة سطرية مقطعية كانت قد ابتكرت التدوير في الشعر الحديث، وهو تدفق كان تتطلبه تلك الحيوية وذلك الإقبال على الحياة، لصالح العودة إلى البناء الجملي المتوزع على وفق إيقاع يتباطأ حيناً بتباطؤ دفق الحياة وينتعش حيناً آخر مع سرعة الاندحار إلى الموت. لا يصلح التدوير هنا، الشاعر أشد تنبهاً إلى طبيعة موضوعاته وإلى ما يتطلبه الموضوع من تقنية ايقاعية وتعبيرية وحتى لغوية؛ إن اللغة هنا مزيج مما كان مهيمناً في المرحلة البكر من جانب ومما يرشح من مرحلة (الكران) من جانب آخر.
هذه القصيدة، ومن خلالها عدد آخر من قصائد الديوان، تعبير حيوي على قدرة الشاعر على أن يطوف في عوالمه الأثيرة، إنما بحرية الماهر الذي لا تغويه جماليات اشتغاله السابق فلا ينصاع لها.
دائماً ينبغي للشاعر أن يكون الأكثر حرية حتى بمواجهة شعره، الشاعر هو الأوسع حيلةً من طغيان الشعر وقدرةً على الافلات من الانسحاق افتتاناً به.

 

القفص

حسب الشيخ جعفر

في قصرها العالي المطلّ بشرفتيه
تخلو إلى الصقرِ الحبيس
في عزلةِ المتعبدين!
ومع المساءِ تعدُّ مائدةً وحفلا،
وتخبئُ (الأقراصَ) عن قربٍ، وتنتهرُ القطط،
وتلفّ كالساعي المدينةَ أو تجوبُ الدرب
كالسكرى بمركبةٍ طويلة
تتصيّد المتوحدين!
فاذا استفاق الطيرُ في القفصِ المدلّى
وتسربلَ الضيفُ المخَدّرُ بالكرى
شدّت إلى الوتدِ المعلّق حبلَها الضاري الطويل!
وهناك في الظل الظليل
تتلقّف الموتى الحُفر
ويُهال بالرفش الثرى
تحتَ العرائش والنخيل!
أنا كنتُ آخرَ عاشقٍ أرخت عليه الكادلاك
أستارَها، وسرت به جذَلا وتيها!
لم أدرِ كيف تبادلَ القدحانِ في يدِها المكان:
أنا فزتُ في الكونياك صرفاً
وهي نائمةٌ بمقعدها الوثير!
يرنو اليها الصقرُ من حينٍ لحين
ويصيح كالحراسِ في الضوءِ الكليل!
فإذا بها في نومها
تمشي كما تمشي المليكة في اختيال
وتشدّ في الوتد الحبال
وتُطيح بالكرسيِّ عن ظلّ يحوم ولا يُرى
وتجرّهُ كالكيس في الممشى الطويل!
من ديوان (الفراشة والعكاز).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram