3-7
المشكلة بالنسبة للكتّاب الثلاثة لا تتعلق بالانحياز لواحدة من الحياتين، أو بأن الحياة هذه أو تلك هي الأحسن، وأن الأخرى يُمكن شطبها بسهولة. المشكلة، ببساطة، أنهم اختاروا الوظيفة اللعينة هذه، اختاروا أن يكونوا رواة. والروائي لا يستطيع أن يفعل الكثير، عليه أن يروي في المقام الأول، تلك هي وظيفته منذ بداية الخليقة حتى الآن: الروي، أو مثلما عبّر عن ذلك بعبقرية مايسترو الحكايات الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وهو يصف حياته، عشت لأروي، الراوي يعيش ليروي. لماذا يكتب عدد كبير من الكتّاب عن طفولتهم؟ لأنهم ببساطة لم يملكوا حياةً أخرى. كيف سيملكون هذه الحياة وهم يقضون بقية حياتهم بالكتابة؟ الطفولة والصبا، سنوات الحياة الأولى، هي الزمن الوحيد الذي عاشوا فيه، وهذا الزمن، وليس غيره، هو الذي يستحوذ على وقتهم، لأن الكتابة تستدعي الوقت مثلما تستدعي الحياكة الخيوط، والراوي لا يملك إلا خيطاً واحداً. وفي حالة روائيينا البغّادة الثلاثة، الخيط الوحيد الذي يملكونه لحياكة قصصهم هو حياتهم التي تركوها وراءهم في بغداد. ربما وعيهم لذلك هو ما يجعلهم يحاولون التخلص من «شَرَك» الحياة الأولى هذه، لكي يثبتوا لمحيطهم الجديد (أو ربما لأنفسهم) أنهم ينتمون إليه، انهم وطنيون، يفكرون بوطنهم الجديد (كما حاول سامي ميخائيل وشمعون بلاص كتابة روايات دارت في أماكن أخرى غير بغداد، شمعون بلاص ذهب إلى القاهرة مثلاً)، لكنها مسألة وقت حتى يكتشفوا أن ما كتبوه يخلو من الوجد، نتاج صنعة كتابة وحسب، لا روح فيه، لم يخرج من القلب. وهذا الشعور بالذات هو الذي أفجعهم وجعلهم يعودون مرةً أخرى إلى الكتابة عن حياتهم الوحيدة التي عاشوها: عن بغداد! وإذا اشتد التمزق هذا، اللا قرار، لماذا لا يجرب أحدهم الهروب من إسرائيل، كما فعل سمير نقاش، الذي حاول الهروب في شبابه إلى لبنان فألقوا عليه القبض عند الحدود وأودعوه السجن، أو كما فعل شمعون بلاص، الذي يقضي معظم شهور السنة في شقته الصغيرة في باريس.
«إن ما عشته في بغداد هو كل حياتي»، كرّر سمير نقاش ذلك في أكثر من مقابلة معه. أما شمعون بلاص فقال: «يثيرني أن أرى ما حدث هناك. الكثير جداً مرّ بهذه المدينة، بغداد، وبهذا البلد، العراق. يثيرني أن أرى ما تبقّى من الماضي. كان هناك عندئذٍ النهر الذي كانت تظهر به الجزر في الصيف. تزورني صور من المقاهي والأزقة وأكواخ الاستحمام على شاطئ دجلة، حيث تركت ملابسي وخرجت للسباحة للضفة الثانية». أما سامي ميخائيل فلا يزال يتذكّر القبلة الأولى التي طبعها على شفتي حبيبته وهما يسيران على أحد جسور بغداد، فوق نهر دجلة.
الثلاثة رأيناهم في «أنس بغداد»، الفيلم الرائع الذي صنعه المخرج السينمائي نصف العراقي ونصف السويسري سمير جمال الدين. ثلاثتهم حدثونا عن حياتهم في عراق كان، مع بدايات وعيهم تحت الحكم الملكي وفي ظلِّ الانتداب البريطاني، يعيش بدايات حداثته؛ وكيف كانوا، كيهود، منسجمين مع باقي السكان، وخاصةً مع الأكثرية المسلمة، إلى حدِّ أن بعضهم أصبح يترك الحي اليهودي ليعيش في تلك الأحياء الجديدة المختلطة، حيث كانت تنتفي التفرقة الدينية، «لأن شعب العراق لم يكن يوماً متديناً (كما يلاحظ بطرافة سامي ميخائيل)، والنكات التي كانت تطول الحاخامات اليهود كانت نفسها تطول الكهنة المسيحيين ومشايخ الإسلام». الفترة تلك، التي تحدث عنها الثلاثة، كانت أيضاً امتداداً للتغييرات التي حصلت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الأتراك، واحتلال الإنكليز للعراق، وما حدث بعدها من انقلاب في المجتمع العراقي على كل مستويات الحياة.
يتبع
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 1 مارس, 2016: 09:01 م