بعد 4 أسابيع من امتناع المرجع السيستاني عن الخوض بالشأن السياسي، يجد العراقيون أنفسهم على أعتاب انفجار هو الأخطر في عراق ما بعد 2003. ويهدد هذا الانفجار الوشيك بنسف الخارطة السياسية التي تشكلت تحت ظروف معقدة كلفت العراقيين الكثير. لكن هذه الخارطة باتت مهددة اليوم، بسلاح الشارع الذي يلوّح به بعض الأطراف، كما يهددها الاستئثار والاحتكار الذي تلجأ اليه اطراف اخرى، فيما يحاول طرف ثالث تجاوزها بتشكيل خارطة اخرى ولكن بأحلاف جديدة.
وتصاعدت مؤشرات التهديد بعد انسحاب المرجعية عن المشهد السياسي بداية شباط الماضي. فمع قرار مرجعية النجف رفع الغطاء عن حكومة العبادي، واختيارها العزلة المؤقتة، فإن "عقبة" كأداء تكون قد زالت عن طريق العديد من القوى الشيعية. واصبحت هذه القوى ترى ان الفرصة باتت سانحة لإعادة رسم خارطة التوازنات في ظل الفراغ السياسي على اساس المتغيرات الراهنة.
لقد شكلت سلطة السيستاني الروحية كوابح أخلاقية أنهت مرحلة الصراعات الطاحنة التي خاضتها القوى الشيعية في وقت مبكر من الإطاحة بنظام البعث. فبعد تدخله لإنهاء أزمة النجف في 2004، وتدخله، بعد ذلك بعقد، لتنحية المالكي، أصبح السيستاني بوصلة للأطراف الشيعية العراقية مهما اختلفت معه. فالكل بات مقلّداً سياسياً لمرجعية السيستاني وان اختلف معها فكرياً او فقهياً.
لكنّ تراخي رئيس الوزراء وتعنّت الكتل الشيعية بتنفيذ الاصلاحات، التي دعت لها المرجعية، طيلة الصيف الماضي، أحبطا الاخيرة ودفعاها لاتخاذ قرار العزلة.
والآن يتلمس العراقيون هذا الفراغ، ويتحسسون خطورة ملئه من قبل قوى لا تمتلك الشرعية الأخلاقية التي حظي بها السيستاني طيلة العقد الماضي. فلا بديل عن الهشاشة السياسية، وغياب الضمانات الاخلاقية والقانونية، سوى الفوضى. فالكل شارك في الحكومات السابقة، بنحو من الأنحاء، وهو يتحمل قسطاً وافراً من أوزارها كما تمتع سابقا بثمارها، وبالتالي فإن التنصل عن المسؤولية لا يصمد امام حقائق التاريخ.
من هنا يتبدى حجم الغموض الذي يكتنف مشاريع الاصلاح التي تطرح على بساط النقاش السياسي بين الحلفاء والأفرقاء على حد سواء. ومن هذه النقطة بالذات نستجلي استعصاء التوصل الى تفاهمات مشتركة بين هذه الاطراف.
وكخيار وسط، بين الإصلاح الجوهري والإصلاح الظاهري، يتجلى طريق آخر يمكن سلوكه بأقل الخسائر، مع ضمان نتائج عملية وواقعية من شأنها إخراجنا من نفق الأزمات هذا. ويتضمن هذا الطريق الخطوات التالية:
1- تعديل قانون النزاهة والنص على ملاحقة المسؤولين الممتنعين والمتخلفين عن كشف ذممهم المالية. وللمفارقة فإن رفض هذه النقطة مثّل محطة إجماع تاريخي بين الكتل اثناء التصويت على القانون عام 2011.
2- كتابة قانون انتخابات تشريعية يضمن التمثيل العادل لجميع العراقيين، متجنباً طرق الالتفاف على إرادة الناخب عبر حيل سانت ليغو والصيغ الغامضة لاحتساب آراء الناخبين. على ان يتضمن القانون الانتخابي، التحول الى الدوائر المتعددة داخل المحافظة الواحدة، وعلى أساس دائرة واحدة لكل 100 الف ناخب.
ان تعديل قانون الانتخابات لن يعطي مفعوله الا بعد اتفاق سياسي آخر ينص على منح مرشح الكتل الأكبر برلمانياً حرية اختيار تشكيلته الوزارية تراقبها كتلة معارضة قوية.
3- تفعيل قانون 21 ومنح الحكومات المحلية صلاحيات إدارية معقولة تفضي الى تقاسم المسؤوليات بين بغداد والحكومات المحلية، مع حماية وحدة البلاد. على ان يضمن القانون هذا تركيز اعضاء المجالس المحلية على الخدمات والتنمية، وإبعادها عن صفقات الكتل في بغداد.
4- تجاوز الخلافات والمضي بإقرار قانون المحكمة الاتحادية، وإبعادها عن الاشتراطات التي تعرقل تمريرها منذ 10 سنوات. واحترام استقلال القضاء كسلطة محايدة عابرة للمكونات، وغير خاضعة لوصاية الفقهاء او فيتو خبراء الشريعة.
5- دعم جهاز الادعاء العام ومنحه صلاحية ملاحقة المطلوبين والمتورطين بقضايا فساد. وحماية هذا الجهاز من التأثيرات والضغوطات السياسية والكتلوية التي تسعى لإضعاف اجراءاته.
6- إقرار قانون خدمة العلم، بوصفه اساساً لبناء مؤسسة عسكرية وطنية ومهنية ومنضبطة، تتولى حماية الحدود وردع الانفلات الإمني.
7- الإسراع بتفعيل مجلس الخدمة الاتحادية، الذي أقر في 2009، واعادة النظر ببنوده الإشكالية، ليضمن التوظيف المتكافئ في مؤسسات الدولة على إسس عادلة.
من شأن هذه الخطوات، اذا ما تبنتها الكتل، ان تغير وجه العملية السياسية، التي يتبرأ منها الجميع حاليا، ولكن بكلف معقولة تجنبنا الهزات العنيفة.
السيستاني وفراغ القوة
[post-views]
نشر في: 2 مارس, 2016: 09:01 م