TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > مائيات السياب

مائيات السياب

نشر في: 19 يناير, 2010: 05:46 م

صلاح نيازيعام 1948، حاسم في حياة السيّاب الفنية، هل كان ذلك بسبب نكبة فلسطين، أم بسبب الوثبة ضد الوضع السعيدي بالعراق، أم بسبب تخرجه في الجامعة ومواجهته للحياة العملية، وبالتالي ابتعاده عن الأجواء الجامعية وخاصة معشوقته؟ لا أدري، في هذه الفترة ظهرت ثيمات جديدة لدى السيّاب، منها، الإلحاف في ذكر الشراع والقلوع، والإفراط في ذكر الأصداء، وأكثر من ذلك ذِكر العينين.
 يتميز الشراعٍ، في هذه الفترة بصفتين: الأولى: الإيحاء بالبعد جسدياً أو روحياً. يقول السيّاب مثلاً في قصيدة اللقاء الأخير:.. وللمساءعطر يضوع فتسكرين به وأسكر من شذاهفي الجيد والفم والذراعفأغيب في أفقٍ بعيد، مثلما ذاب الشراعفي أرجوان الشاطئ النائي وأوغل في مداه.ارتبط المقطع أعلاه بالثمل من العطر أي بحاسة الشم، يعود الشاعر مرة ثانية في قصيدة أساطير إلى الشراع وحاسة الشم فيقول:بدفء الشذا واكتئاب الغروبيذكرني بالرحيل:شراع خلال التحايا يذوبوكفّ تلوّح.. يا للعذاب.إلى أن يقول في آخر القصيدة:جناحان خلف الحجابشراع..وغمغمة بالوداع:يرتبط الجناح عادة بحاسة اللمس، أي بالرفق والحنان، تأثراً بالقرآن الكريم ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة).وفي قوله دفء الشذا جمع السيّاب بين حاستي اللمس والشم وتدل الصورة على الاقتراب وربما التلامس، خاصة مع غبشية الغروب، وهي إلى ذلك موازنة مع الفراق.أما الصفة الثانية للشراع، فهي التخلص من بيئة، والانتقال إلى بيئة أخرى حتى لو كانت موتاً، قال ينادي الموت:بالأمس كنتُ أصيح خذني في الظلام إلى ذراعكْواعبر بي الأحقاب يطويهنّ ظل من شراعكْخذني إلى كهف تهوّم حوله ريح الشمالنام الزمان به، وذابا في شعاعكْ.قلنا إن الأصداء اشتدت لدى السيّاب عام 48، واتخذت دلالات عديدة، ربما بتأثير من قراءاته في الأدب الإنكليزي. ومن هذه الدلالات الفراغ الواسع كما في قصيدته أساطير:تعالي فملء الفضاءصدىً هامس باللقاءيوسوس دون انتهاء. الصدى لا يوسوس، ولكن ربما قصد الشاعر به هنا الصوت الخفي الذي لا مصدر له. وهذا الفراغ يظهر على أشده في قصيدة:" في القرية الظلماء":القرية الظلماءُ خاويةُ المعابر والدروبتتجاوز الأصداء فيها مثل أيام الخريفجوفاء في بطءٍ تذوب.ولكن الصدى لم يظهر – على حقيقته – وكرجع إلا في قصيدة:" نهاية":أكان الهوى حلمَ صيفٍ قصيرخبا في جليد الشتاءخبا في جليدوظلّ الصدى في خيالي يُعيدخبا في جليدٍ.. خبا في جليدالشاعر هنا هو مصدر الصوت والصدى، وهذا الحوار الذاتي لا يكون إلا مع أشد حالات اليأس والقنوط والانكسار. مع ذلك، فقد يكون الصدى في المقطع أعلاه هو البذرة التي كبرت، فأصبحت الصدى المرعب في قصيدة أنشودة المطر:أصيح بالخليج: يا خليجُيا واهب اللؤلؤ والمحار والردىفيرجع الصدى كأنه النشيجُيا خليجُيا واهب المحار والردى.في هذا العام أيضاً ظهرت ثيمة العينين فمرة تبحثان في عينيه عن حاضر خاوٍ ومرة عن ماضٍ في ضباب الذكريات،ومرة ثالثة حالمتين تمور فيهما أشباح الدموع. ولكن الوصف الحقيقي لما تُنبئ به العينان فيما بعدها من قصائد جاء في قصيدة ملال:دبّ الملال إلى فؤادك مثل أوراق الخريف...أهواك؟ ماذا تهمسين؟ أتلك حشرجة الحفيففي دوحة صفراء يقلق ظلها روح الشتاء؟!لا تنظري! في مقلتيك سحابتان من الجليدتتألقان ولا لهيب.. وتزحفان ولا فضاء.ولكن قبل ذلك بعام، كان قد وصف العينين بكوكبين، بنبعين ولكنهما لا يسقيان:لعينيك للكوكبين اللذينيصبّان في ناظريّ الضياء  لنبعين كالدهر لا ينضبانولا يسقيان الحيارى الظماء  لعينيك ينثال بالأغنياتفؤاد أطال انثيال الدماء  لم يصف السيّاب العينين بالغاب إلا مرة واحدة قبل أنشودة المطر، يقول في قصيدة أهواء:عيناك أم غاب ينام على وسائد من ظلالعلى ذكر العينين، لا بدّ من القول أنه ما من شاعر عربي اهتم بالمثنى وألحف في استعماله كالسيّاب. ففي قصيدة أساطير مثلاً نجد تعابير مثل:وغنى بها ميتان/ وانتهى عاشقان/ وعينين تستطلعان الغيوب/ وتستشرفان الدروب/ بلونين من ومضة وانطفاء/ على مقلتيك انتظار بعيد/ جناحان خلف الحجاب.ولكن قبل الآنتقال من عام 1948 لا بدّ لنا من التعرّف إلى قصيدتين هم: "اتبعيني" و"عينان زرقاوان" لأنهما تسجلان مرحلة جديدة في حياة السياب الفنية والحياتية، ولأن لهما علاقة شديدة بمائياته.لم يعد الشاعر في قصيدة إتبعيني منتظراً بيأس أو بحرقة، ولكنه ربما لأول مرة يناشد حبيبته باتباعه ولكن إلى أين؟ وليس هنا في القصيدة جدول يعرفه، أو نهر يميزه في موقع معين، وإنما أصبح كل منهما شطآناً بلا هوية وبلا خصوصية، ولكنهما شطآن مؤنسنة لهما ما للإنسان من جسد ومشاعر، مرة يعلو ذهول، ومرة وجوم، شطآن حزينة ووحيدة، وفيها أشباح السنين، هكذا يظهر الزمن ربما لأول مرة في شعر السياب مادة فاعلة في تكويناته الشعرية، وأحد محاورها الأساسية، ولا يفوتنا أن السيّاب تخرّج في فرع اللغة الإنكليزية، ولابدّ أنه تأثر بتصورات شكسبير عن الزمن الذي  كثيراً ما يرمز إليه بنهر جارٍ، وقبل ذلك ظهر كنهر في قصيدة عبير وقد كتبها قبل عام 48 بأسابيع يقول فيها:أهمّ أن أهتف: أنت التيمثلتها في أمسي الأبعدِ  وأنت من تحلم روحي بهاعلى

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram