لم يخطر على بال لجنة التحكيم بأنها ستفتح أفقاً جديداً أمام الفنان السويسري فرديناند هودلر ( 1853-1918) حين رفضت لوحته التي أسماها (الليل) من العرض في المعرض الرسمي لفناني مدينة جنيف. المفاجأة كانت حين نظر هذا الفنان في وجه المحكمين ساخراً، وحمل لوحته ليخرج مسرعاً يجوب شوارع المدينة، وأثناء تجواله وتفكيره بحال الفن والفنانين في بلده وبحثه عن حلول لنفسه ولمستقبله الفني، خطر في ذهنه حل طليعي وغريب. فقد قرر أن يستأجر غرفة صغيرة ويرتبها بشكل جيد ومناسب، ويعرض فيها لوحته الوحيدة. بعد ذلك طلب فرنكاً واحداً فقط من كل زائر يود مشاهدة لوحته المعلقة في الغرفة. انتاب الفضول الكثير من الناس الذين جاءوا الى الغرفة لمشاهدة مايخفيه فرديناد. وهكذا بدأ الزوار يدخلون بالتناوب لرؤية لوحته الخفية، وكأنهم ينسلّون الى دار بائعات هوى، والرسام اللطيف يقف في الخارج سعيداً وهو يجمع النقود التي بدأت تتكاثر بين يديه. بهذه الطريقة جمع هودلر 130 فرنكاً كانت كافية ليحمل لوحته ويسافر بها نحو باريس سنة 1891 تاركاً خلف ظهره مدينته التي نشأ فيها وتعلم الرسم وأنجز أعماله الأولى. رحل الى عاصمة الفن والثقافة وقبلة فناني العالم، ليقيم بعدها بفترة قصيرة أول معارضة وتبدأ خطواته الحقيقية كواحد من أعظم وأهم فناني العالم.
لا يمكننا أن نرى توحد الانسان مع الطبيعة كما نراه في أعمال هودلر، هذا الفنان الذي فاضت عاطفته على قماشات الرسم بشكل غير مسبوق، وخلق نوعاً أو نمطاً من الفن تمتزج فيه الطبيعة مع الانسان الذي يبدو عارياً في الكثير من أعماله، هذا المُلوِّن الباهر الذي تنتمي لوحاته الى المدرسة الوحشية من ناحية الأداء واللون والتنفيذ، لكنه دفع أعماله نحو مساحات بعيدة حيث فتح باب الفن واسعاً أمام الرمزية ، وتأثر به الكثير من فناني العالم.
في أعماله تشع العاطفة من أجساد النساء ويملأ فضاءاته عطر أنوثتهن الطاغي، حيث مزج بشكل نادر، الرقص مع طقوس العبادة والتأمل والاسترخاء، بمسحة وجودية ونشوة عميقة تمتزج مع المحيط. نساء يرددن أناشيد الرغبة وكأنهن في معبد للجمال، تحيط بهن في الغالب مناظر لبحيرات وطبيعة، وغيوم بيض تنتشر في الأعلى مع تفاصيل لجبال الألب التي تشبع بها الفنان في صباه وشبابه.
ربما تكون كلمة انسجام هي أقرب الكلمات الى أعمال هودلر وشخصيته أيضاً حيث حاول أن يجسد هذا الانسجام بين الناس أنفسهم وبين الناس والطبيعة أيضاً، هو الذي دافع ودان قصف المدفعية الألمانية لمدينة ريميس سنة 1914، ورداً على ذلك امتنعت المتاحف الألمانية من عرض أعماله وفقد الكثير من الفرص هناك، لكنه بقي ثابتاً على مبادئ الجمال ومحبة الانسان التي كان ينشدها دائماً.
رسم هودلر لوحات عديدة لحبيبته فالنتين غودي داريل حيث تنعكس ألوان الطبيعة على بريق جسدها الوردي المضيء. أدخلها في لوحات متنوعة وكثيرة حتى حانت اللحظة التي بدأ يرى فيها وردته اليانعة هذه تذبل أمام عينيه حين اصابها المرض. وهنا منحها كل وقته ومحبته وصاحبها كل فترتها الباقية، حيث كان يقضي ساعات طوال قرب سريرها، يعتني بها ويرسمها في لوحات وثَّقت أشهرها الأخيرة وهو لايبارحها، وقد رسمها في كل مراحل مرضها في لوحات سريعة التنفيذ تعكس عاطفته المشتعلة وهو يحاول ايقاف هذه اللحظات التي يحاول فيها الزمن سرقة حبيبته التي تظهر وهي راقدة، تشبك يديها وتنظر الى البعيد نظرة حائرة أو تنظر في وجهه حيث ينسدل شعرها الأحمر على حافة السرير. رحلت ورحل هودلر بعدها تاركاً مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية، كان أغلبها غيرمنتهٍ. ذهب هودلر بعيداً وودع هذه الدنيا تاركاً -إضافة الى ثروته الكبيرة- دروساً في محبة الفنان لكل ماهو جميل وحقيقي، حيث ارتقى بفنه وروحه الدافئة الى مبشر بنوع من العاطفة التي تقترب من الحكمة.
عطر الأنوثة
[post-views]
نشر في: 4 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...