حسين عبد الرازق كانت الساعة توشك أن تعلن انتصاف ليلة الأربعاء السابع من يناير حيث يحتفل أقباط مصر بعيد الميلاد المجيد، والهدوء يخيم علي مدينة (نجع حمادي) بسكانها الذين يبلغ عددهم 300 ألف نسمة، التي اشتهرت منذ تأسيسها بزراعة وصناعة قصب السكر، ورغم بناء صرح صناعي كبير علي بعد أربعة كيلومترات من (نجع حمادي) هو (مجمع الألمونيوم)،
فمازالت المدينة وسكانها تعاني من الفقر والطابع الزراعي القبلي. في هذه اللحظات تحركت سيارة ملاكي بداخلها ثلاثة أشخاص وربما أكثر، أحدهم يمسك ببندقية آلية روسية الصنع، تحركت من شارع المحطة في الطريق إلي شارع (حسني مبارك) حيث تتجاور كنيستا (ماريوحنا) و(العذراء مريم) ومقر مطرانية نجع حمادي، وفي الثانية عشرة تماما - وهي اللحظة التي يفترض خروج المصلين فيها - انطلقت الطلقات بسرعة ليسقط 6 من المصريين الأقباط وجندي الحراسة المسلم قتلى، ويصاب تسعة آخرون، ولولا أن الأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي قد بدأ الصلاة مبكرا وأنهاها في العاشرة والنصف مساء لتضاعف عدد الشهداء والجرحى. وشهدت المدينة يومي الخميس والجمعة اشتباكات وعمليات تخريب للمحال والمنازل متبادلة بين المسلمين والأقباط، ورفع المسيحيون رايات سوداء علي بيوتهم حدادا، ولم تتوقف أعمال العنف إلا بعد نزول قوات الشرطة إلي شوارع المدينة وفرض حظر للتجول، وألقي القبض بعد الحادث بـ 48 ساعة علي المتهمين الثلاثة الذين كانوا في السيارة، وهم (هنداوي محمد سيد حسن) و(محمد أحمد حسنين الكموني) و(قرشي الحاج محمد علي)، وأمرت النيابة بحبسهم علي ذمة التحقيق 15 يوما. وطيرت وكالات الأنباء أخبار هذه الجريمة متحدثة عن التمييز ضد الأقباط في مصر واضطهادهم، وأعرب الفاتيكان عن تضامنه مع أقباط مصر، وبعث رئيس المجلس البابوي لوحدة المسيحيين الكاردينال فالتر كاسبر برسالة إلي بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا شنودة الثالث قال فيها إن (علي جميع المسيحيين أن يبقوا متحدين في وجه الظلم، وأن يسعوا معا إلي السلام الذي يبقي المسيح الوحيد الذي يمكن أن يعطينا إياه)، وأدان (فرانكو فراتيني) وزير الخارجية الإيطالي الحادث قائلا: (إن أعمال العنف التي ارتكبت ضد الطائفة المسيحية القبطية في مصر تثير الرعب والاستنكار.. ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يظل غير مبال، ولا ينبغي أبدا أن يستكين في مواجهة التعصب الديني الذي يشكل انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان الأساسية). وأرسلت منظمة (الاتحاد المصري لحقوق الإنسان) مذكرتين لكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للمطالبة بإجراء تحقيق دولي في مسألة الاعتداءات علي الأقباط، وإرسال لجنة تقصي حقائق دولية بشكل عاجل!. وفسرت الشرطة المصرية الحادث بأنه عملية ثأر، وعلي أساس وجود قرابة بين المتهمين وفتاة مسلمة اغتصبها شاب مسيحي منذ أكثر من شهر في فرشوط. وأيا كانت التفسيرات وما ستنتهي إليه تحقيقات النيابة، فلا يمكن اعتبار ما حدث في نجع حمادي حادثا فرديا معزولا عن أحداث سابقة تشكل ظاهرة خطيرة عنوانها (الفتنة الطائفية) وعلي الأصح (الفتنة الوطنية). لقد شهدت مصر منذ مطلع السبعينيات سلسلة من التفجيرات الطائفية بين مسلمين ومسيحيين بلغت أكثر من 100 حادثة طائفية، أولاها حادثة الخانكة عام 1972 ثم دمنهور وأحداث أخرى أعوام 1975 و1976 و1977، مما اضطر الرئيس الراحل أنور السادات للاعتراف بوجود أزمة طائفية عقب إحراق إحدي الكنائس بقرية بمحافظة الفيوم، والتوتر بين السادات والكنيسة القبطية وإصداره قرارا بعزل البابا شنودة وتحديد إقامته (!) في مذبحة سبتمبر 1981 بعد أحداث الفتنة في الزاوية الحمراء وانفجار العنف الطائفي بين المسلمين والأقباط خلال التسعينيات (حيث انتهج بعض المتطرفين الإسلاميين مبدأ العنف بالتعدي المباشر علي دور العبادة المسيحية واقتحام بعض الكنائس وقتل الأقباط أثناء صلواتهم، في وقت أطلقت فيه الجماعة الإسلامية المتطرفة مبدأ استحلال محلات الذهب المملوكة للأقباط والتعدي علي الكنائس والأقباط في محافظات مختلفة)، وبلغت الفتنة قمتها اعتبارا من 14 - 15 أغسطس 1998 في قرية الكشح بمحافظة سوهاج والتي يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة 70% منهم أقباطا (30 ألف نسمة). في مساء الجمعة 14 أغسطس 1998 عثر الأهالي علي جثة شابين من أبناء القرية الأقباط هما سمير عويضة (25 سنة) وكرم تامر (27 سنة)، وكانت ظروف وملابسات مقتلهما تشير إلي أنها جريمة قتل عادية تحدث العشرات منها في مدن وقرى ونجوع مصر، ولكن ضباط وجنود شرطة مركز دار السلام الذي تتبعه القرية كان لهم وجهة نظر أخرى، قرروا أن القاتل لابد أن يكون قبطيا تجنبا لحدوث فتنة لو كان القاتل مسلما، وانطلاقا من هذا القرار مارسوا اعتبارا من يوم 5 أغسطس (العقاب الجماعي) ضد أهالي قرية الكشح خاصة الأقباط، فاحتجزوا عشوائيا مئات المواطنين من بينهم أسر كاملة رجالها ونساؤها وأطفالها وشيوخها ومارسوا الترويع للسكان واحتجاز الرهائن وممارسة التعذيب ضد المحتجزين لإجبارهم علي الإدلاء بالاعترافات والمعلومات حول مرتكبي الحادث، ووثقت المنظمة المصرية أشكال وأساليب التعذيب التي تعرض لها أهالي الكشح، من (التعليق لساعات طويلة في الهواء، والتقييد في أوضاع معقدة وشاذة (كخروف مشوي) بما يضاعف الألم، والتنطيط علي ال
(الفتنة الطائفية).. من الخانكة والكشح إلى جريمة (نجع حمادي)
نشر في: 19 يناير, 2010: 05:51 م