أنا لا أنسى ما حييت، ذاك اليوم الذي أخذتني فيه الى حلقة الذكر. قلتُ لك: إني أخاف هيئاتهم، أولئك الدراويش، وترعبني أسياخهم التي يغرزونها في أفواههم وتخترق بطونهم، أخشى النار التي يلهون بها مثلما يلهو ابناء المدينة بالكرات الملونة. لكنك أخذت بيدي، ودخلنا مكيد ام عزيز. لا لم ندخل، إنما وقفنا نطل من بين قضبان شباك البهو الواسع، على حشد الرجال والنساء، ثيابهم بيض وأذقان الرجال طويلة إلى الأرض، وقد راعني مشهد النساء، وهن يرقصن وسط قبيلة الرجال، أو وهنَّ يتساقطن بين أيدي صويحباتهن، مثلما يساقط الرطب من عذق تناهبته ريحُ عاتية. ما كنتُ لأعي معانى الوجد والعشق والشوق يومذاك.
منذ الساعة البعيدة تلك، وأنا أنشد الطمأنينة، أبحث في الأضرحة المنسية بين الأنهار، وسط البساتين عن قطعة من الظل، تبتدعها سدرة شعثاء، تدلت اغصانُها حتى لا مست الماء والأرض، قطعة تستأثر بالخلود، وتبني في فسحة قصيرة من السماء معنى آخر من معاني التبصر والتأمل، أقرأ في التراب المحيط أسماء اللواتي مررن بهذا الضريح وذاك، أستدرج الماء، وهو يروح ويغدو مع الأقمار والشموس في لعبة المد والجزر، التي ابتكرتها البحار البعيدة، أدنو من شاطئه فأسمع تنهدات عاشقات، بكاء أرامل، حشرجة مخلوق ما، لم تفصح كثيراً وكركرات أطفال ولدوا تواً، لما تجفُّ أصابعهم بعد.
وقلت لك: أنا لا أحب القباب الملونة العالية، ولا يثيرني الذهب الكثير على أبواب أوليائها، لا أشعر بقدسية كهذه، هذا بذخ لا أحتمله، فلا تأخذني إلى هناك. أنت تعرفني، أنا نسيج خوص قليل، حبل من ليف مشّعه فلاح أعمى، فأكثر في مكان منه وشحَّ على بعضه. ولم يمهلني النخل أكثر، لم تعطني الأنهار بغيتي التي أردتها من التيه والهيمان. وهكذا، رحت أقصُّ عليك ما تشابك وأستعصى من تهيؤاتٍ ومُنىً. لكنني، وفي غفلة منك، هبطت الى الأرض، لا مست يدي صعيدها الرطب المهجور، ومثلما يُخفي مجنون في خرقته خاتماً، دسست في جيبي قطعة الفخار الصغيرة، بلونها الشذري المحكوك. قلت: هذه ضالتي من الأرض الضيقة. لعلنا، كنا عند ضريح الشيخ معمر، في محيلة الصكاروة، والله لا أدري، وقد نكون عند السيد رجب الرفاعي في السبيليات، حيث أخذتني امي ذات يوم. لا أدري.
منذ اللحظة اليتيمة تلك، وأنا أحتفظ بقطعة الفخار هذه. أخرجها من سبت الحلفاء المحشور في سحّارة السيسم، أريها الشمس ساعة، وأيمم وجهتها القمر الفضي البعيد، أهزها في النهار تارة وأقربها من وجهي تارة أخرى. وفي ليل الشتاءات الطويل أجدها تصغي لحديثي عن الغزلان، وهي تقضم فسحة القمح في بطون الوديان النائية الخضر . قطعة الشذر الفخارية هذه، ظلت تشع في روحي كلما أطبقت سماءٌ غريبة عليّ. أنا أبحث اليوم، في المكايد القريبة والتكايا النائيات، أسأل أم عزيز والسادة الأولياء الرفاعية والردينية والموسوية أيضا عن الخزّاف ذاك، هذا الذي سقطت جرّة الفخار من يده وتحطمت. صرت أبحث في الوجوه عن صورته، التي تكسرت في الموج المتلاطم، عن هيأته التي ظلت تتمرأى على رؤوس النخل، بغيتي أن أعرف كم كانت سنوات عمره، سعادتي كانت في معرفة اسم النهر الذي أخذ طينة جرّته الأولى عنه، القصبة التي خطت الأحرف هذه، وكيف كانت تميل رقبته ساعة تأمل الحرفين الأخيرين، أي الطيور حطت على سبابته آنذاك، وكيف اهتدى الى لونه القاشاني هذا.
مثلك، وقف أصغي للكلمات المبهمة الشحيحة للنشيد المنغّم على وقع الدفوف، الصوت المبحوح الذي راح يتشرب في أسماعنا، خلل شباك الصالة، ومثلهم رحنا نميل بأجسادنا ذات اليمين وذات الشمال، كانت عصا أم عزيز تكشط ظهور المتخلفين من الرجال والنساء، تلكزهم مثلما يلكزُ سلطان عثماني إمائه وسراريه. أنت تنتفعُ بالقضبان الواسعة التي قبالتك، تطلُّ على حلقة الذكر كما يحلو لك، وانا أنحشرُ تحت إفريز الخشب، خائفاً مرعوباً.
أنحشرُ تحت إفريز الخشب
[post-views]
نشر في: 5 مارس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...