في أول رحلة لي وجدتني ذاهباً "للريل" مثل مسافر غشيم في عالم السفر والليل والحيرة والمجهول فصادفت "حمد" في فاركَون شبه مظلم إذ لا بصيص من ضوء غير مسافر يهمهم مع نفسه بجرأة غير معهودة من عراقي فصيح: ".. فأنا القادم من أخطائي/ وأنا شاهد أخطائي/ ولذا أبصر في الأيام/ أخلصت لحد الأخطاء".
قلت في نفسي :هذا عراقي مختلف.. يدمدم ويهمهم لكأنه يعرض جرحه في الهواء الطلق وعلى مرأى من الناس بلا توريات ولا أقنعة ولا استعراض.. عراقي قادم من أخطائه.
جلست عنده وتحرك الريل وكل منا له وجهته.. هو ذاهب إلى الهور، كما اكتشفت لاحقاً، وأنا أتلمس خطواتي في عالم شبه مظلم.
سرعان ما انتقل المسافر إلى اللهجة الجنوبية فأسرتني، عندها، لغته لأنها تختلف عن لهجتنا، نحن أبناء الجنوب.. فاحترت أكثر: هي لهجتنا وليست لهجتنا!
كان المسافر الذي صودف أن جاء مكاني لصقه يبتكر علاقات لغوية غير مألوفة على مسامع مسافر غر، مثلي، وغشيم:
"يا بو محابس شذر/ يلشاد خزامات/ يا ريل بلله.. بغنج/ من تجزي بام شامات/ ولا تمشي مشية هجر.. كَلبي بعد ما مات"!.
أوشكت أن أهز كتفه لأسأله: إنها لهجتنا لكنها لا تشبه لهجتنا!.
قلت أجاريه لعلني أجد ما يضيء ليلتي المعتمة مع هذا المسافر الغامض.
سرعان ما أخذ بالغناء والمسافرون نيام، أو شبه نيام، لكن هذا المسافر في ليل قطار الجنوب كان أكثرنا يقظة.
"جن حمد فضة عرس.. جن حمد نركيلة/ مدكَكَ بمي الشذر، ومشلّه شليله".
لفتتني أنا الشاب الغشيم، هناك، ثلاث: فضة العرس ومي الشذر ومشلّه شليله!!
لولا احترام لمن هو أكبر مني عمراً وتجربة، وقتها (عندما وجدت نفسي في ذلك الريل) لأمسكت به من ياقته وسألته: ما الذي فعلته بلهجتنا، يا صاح!
شيئاً فشيئاً بدأت أهدأ بعد أن خضعت لسحر ما فعل بلهجتنا، وما ابتكره من علاقات لغوية غير مألوفة، فجعلها أجمل مما هي عليه.. هذا المسافر الغامض.
المسافر الغامض بدأت تتكشف أسراره وأساريره: شاعر!
بل أكثر.. هو شاعر يدخل في التجربة العميقة للألم والأمل، عندما غادر الفاركون إلى الفاركون المجاور وهو يتألم.. يضع يده على خاصرته كمن يحاول الإمساك بألم لم يجربه أي من المسافرين معه في ذلك الريل:
"ميلن.. لا تنكَطن كحل فوكَ الدم/ ميلن، وردة الخزامة تنكَط سم"!
ثمة قتيل/ شهيد.. ثمة دم. لكن كيف وردة الخزامة تنكَط سم؟
لم أدرك المعنى، وقتها، إلا بعد أن سألته فأجاب من دون أن يجيب: هذا شعر، والشعر لا يفسر كالعلم، إنما يُحس.. ببساطة، يا بُني: هل ما قلته حلو لو مو حلو؟
بلا تفكير رددت: حلو جداً!.
أدركت، وقتها، شيئاً من الشعر على يديه.. هذا المسافر الغامض، ليلاً، في "غطار" نازل للهور يكتشف اللهجة ويعيد الاعتبار إليها ويجعلها على غير لهجتنا، وهو ابن بغداد الأصيل الذي نذر نفسه وخبرته وحسه ليبتكر وطناً آخر، لا اللهجة حسب، بينما مشحوفه ينعس على سرير الماء وثمة نجمتان.. ثلاث نجمات، أو سبع مثل بنات نعش، يحرسن الشاعر وهو في أشد حالات يأسه:
"فطرّه هم ما بيج يا روحي؟؟!.. الورد معذوره منّه".
سألته بفضول الصبيان: ممكن أعرف اسمك؟
أجاب بأريحية البغدادي وابن الهور: أنا مظفر النواب.
للريل و.. مظفر
[post-views]
نشر في: 7 مارس, 2016: 09:01 م