كان يا ماكان....كانَ في ذات يومٍ بهيِّ الطلَّة، مزهواً بإشراقته، متفتّحَ الأسارير، شيخٌ جَذِلٌ، يحمل كيس عنبٍ يقول إنه فاكهة هذا الموسم، اخترتُ منه عنقوداً أحمرَ لكِ في عيدك..!
التَفَتُّ، وحيرتي تترك أثرها على محيّايَ، أستجير بمَن حولي من إخوة وأصحا
كان يا ماكان....
كانَ في ذات يومٍ بهيِّ الطلَّة، مزهواً بإشراقته، متفتّحَ الأسارير، شيخٌ جَذِلٌ، يحمل كيس عنبٍ يقول إنه فاكهة هذا الموسم، اخترتُ منه عنقوداً أحمرَ لكِ في عيدك..!
التَفَتُّ، وحيرتي تترك أثرها على محيّايَ، أستجير بمَن حولي من إخوة وأصحاب لعلّهم يفكّون لي سرّ هذا العيد !
لم يكن لهذا العيد أيّ مَعلَمٍ من معالم أعيادنا.
نحن، كما نحن كل يوم. ثوب عيدٍ مضى لم يستبدله الأهل لنا بثوبٍ جديد. لا تبادل للتهاني، ولا عيدياتٌ أو وعد بها كما هي العادة قبل يوم من إطلالته.
وحامل العنب من ناسنا، شيخٌ يحمل همّه كلّ يومٍ إلى سوق المدينة يسترزق فيها. قال صديقي إنَّ والده صار فجأة يغيب خارج أوقات الدوام. يذهب إلى مكانٍ لم تطأه قدماه، وحين نسأله: أبي إلى أين أنت ذاهبٌ..؟ يسعل سعلته المعهودة، ويتضاحك قائلاً: إلى أخٍ لي لم تلدْهُ أمّي..!
لم يبح لنا بغارِه، ولم ينفعنا تكرار السؤال عليه كل يوم، حتى جاء يوماً يحملُ كتاباً، كرّاسةً، دفتراً، قلماً،.. وقد تحوّل وجهه قمراً، مساحةً مفتوحة على فرحٍ لم نألفه فيه، وكأنّه خُلقَ هكذا من جديد أو أعاد خلق نفسه باسماً، تشرق ابتسامته من أعماقه البعيدة، ليتلوّنَ محيّاه بما تعبّر عنه سويّته وضميره ووجدانه..
ومذ عاد بكرّاسته وهو يحملها كما لو أنه يطوي بين جناحيه كنزَ سليمان، صار يرطن ويتهجّى حروفاً وكلمات. ويرسم أشكالاً، ثم يقرأ بصوتٍ خفيضٍ، ليعلوَ مع الأيام، ويَتَنَغَم، ثم يجاهر بكنزه ومنبع فرحه، ويبوح بسرّ أخيه من دون أن يكشف عن مكانه الأثير..!
قال صديقي، ونحن لم نكن قد تجاوزنا الرطانة في القراءة: أبي تعلّم القراءة والكتابة، وصار يُعلّم أمي، وتحولت خلوتهما إلى بهجةٍ ليست كبهجة زوجين، وصارت بينهما أسرار، وبات لا يخرج لوحده إلى حيث غار أسراره!
مرّت أعوام ليفاجئُني صديقي، بعد أن عبرنا الرطانة في القراءة، واكتشفنا سرّ أبيه، ومغارته الأثيره: لقد تحوّل عنب أمّي وفاكهته الطازجة في مثل هذا اليوم، هديته لعيدها قرنفلة حمراء!
سألتُ: ليس في مدينتنا بائع وردٍ ولا قرنفلة. ردّ ضاحكاً مزهوّاً بأبيه: قدمها زائرٌ يُطلُّ على غارهم السرّي في مناسبات بعينها قادماً من بغداد، حمل هذا العام قرنفلاً لكلّ واحدٍ منهم، تحمل بطاقة عيدٍ باسم أمي، مثل ما فعل لأسماء مَن في بيته أمٌ أو صبيّة أو امرأة كتب فيها: في مثل هذا اليوم نولد معاً من جديد..!
قال صديقي، سألت أبي... ما هذا اليوم الذي تولدان، أنت وأمّي يا أبي، فيه؟ أجاب بفرحٍ غامر: إنه يومٌ نتكامل فيه، لنستعيدَ سويّتنا الإنسانية، ولنصبح تجلّياً لما ينبغي أن يكون عليه كل رجل وامرأة، فهذا يومٌ صار للمرأة فيه صوتٌ ولا كلّ الأصوات.
إنه ٨ آذار.. عيد المرأة وفرح الرجل الذي يرتقي بسويّته كإنسان يتحرّر من أسْرِ ذكوريّته، وعبودية ما شاخ من تقاليده وأعرافه وماضيه الأسير..
تعرّفتُ منذ ذلك اليوم إلى معنى آخر للقرنفل..
وتعرّفَ صديقي إلى معانٍ أخرى من أبيه.
قال إنه صار يتحدّث عن الطبقات والعدالة والحقوق المهضومة.
وحين عُدتُ إلى بغداد لم أجد سبيلاً للوصول إلى صديقي...
لكنّني اهتديتُ بعد طول بحثٍ إلى تلفون نعيمة الوكيل، إيقونة ماتزال تذكِّر بزمن التوهّج الجميل..
قلتُ لها بعد أن تعلّمتُ معنى القرنفل وأسرار محرابٍ قديم مِن ذلك الزمن المشرق: أنتِ عيدي الذي يتجدَّد.…!
جميع التعليقات 1
خليلو...
اليوم لا ادري كيف وجدت نفسي امام شاشة لم ارها من قبل رغم علمي بوجودها من قبل فاغراني الجو الاحتفالي الذي وجدتها عليه فتابعت وما هي الا لحظات الا طلعة شابة تظهر بطلة تخالف تماما اقنوم الشاشة لتنادي الوجه الذي يطل العالم على العراق من خلاله . كانت الاحتفالي